إِنَّ الْحَمْدَ للهِ ، نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِيْنُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ .وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، أَمَّا بَعْد :
هذا محمد - صلى الله عليه وسلم - لو كنتم تعلمون
د/ حسام الدين السامرائي
***
• تأمَّل منزلة النبي بين الأنبياء وأنت تَستشعر خطاب الله لأنبيائه جميعًا، فقد خاطَبهم بأسمائهم، فقال: ﴿ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [البقرة: 35]، وقال: ﴿ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ [هود: 46]، وقال: ﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ [هود: 76]، وقال: ﴿ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الأعراف: 144]، وقال: ﴿ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 116]، وقال: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ﴾ [مريم: 7]، وقال: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12]، وقال: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً ﴾ [ص: 26].
فكل الأنبياء خاطَبهم ربُّنا - عز وجل - بأسمائهم، أما رسولُك - صلى الله عليه وسلم - فلم يُخاطبه ربُّه إلا بالنبي أو الرسول، فقال - جل وعلا -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ [الأنفال: 64]، ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾ [المائدة: 41].
ولَم يأت بلفظ محمد في القرآن إلا مقرونًا، فقال - جل وعلا -: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ﴾ [آل عمران: 144]، وقال: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 40]، وقال: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ [الفتح: 29].
وهذه إشارة عظيمة إلى منزلته ومكانته - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء.
• تأمَّل في رحلة المعراج التي اختصَّه الله بها دون الأنبياء.
• تأمل في أن جزءًا من شَرعه - صلى الله عليه وسلم - فُرِض في السماء.
• تأمَّل بأن الله ميَّزه، فغفَر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وما ذلك إلا له.
• تأمَّل كيف أن الله جعل بين بيْتِه ومِنبره رَوضةً من رياض الجنة.
• تأمل كيف أعطاه الله الكوثر والمقام المحمود، والوسيلة والفضيلة.
• تأمل في معجزات الأنبياء التي انتهَت وانقرَضت، بخلاف معجزته - صلى الله عليه وسلم - وهي القرآن، فهو ذِكر الله الخالد إلى قيام الساعة.
إنها منزلته - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء، فاحْفَظها يا رعاك الله.
ثالثًا: منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصحابة:
للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكانته ومنزلتُه في قلوب أصحابه، فكانوا يُعظِّمونه ويُوقِّرونه، وأنقل الصورة إلى عُروة بن مسعود - والفضل ما شهِدت به الأعداء - ليصِف لنا يومَ أن جاء مفاوضًا عن مشركي قريش يوم الحُديبية، وهو يسجِّل توقير الصحابة لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - فقال: "فوالله، ما تنخَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نُخامةًً، إلا وقَعت في كفِّ رجلٍ منهم، فدَلَك بها وجهَه وجِلدَه، وإذا أمرهم ابتدَروا أمرَه، وإذا توضَّأ كادوا يَقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلَّم، خفَضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدون إليه النظر؛ تعظيمًا، فرجَع عُروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفَدت على الملوك، ووفَدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مَلِكًا قطُّ يُعظمه أصحابه ما يُعظم أصحابُ محمدٍ محمدًا، والله إن تنخَّم نُخامةًً إلا وقعَت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدَروا أمره، وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلَّم خفَضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدون إليه النظر؛ تعظيمًا له، وإنه قد عرَض عليكم خُطَّة رشدٍ، فاقْبَلوها"؛ رواه البخاري، ومسلم.
إنه الرسول الذي جاءهم، فاستنارَت الأرض بعد ظُلمتها، واهتدَت به البشرية بعد ضلالها وحَيرتها.
• تأمَّل في منزلته عند أصحابه وأنت تقرأ فِعل ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان شديد الحبِّ لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فعرَف في وجهه الحزن، فقال: ((يا ثوبان، ما غيَّر وجهك؟))، فقال: ما بي من وجعٍ يا رسول الله، غير أني إذا لم أرَك اشتقْتُ إليك، فأذكر الآخرة، فأخاف ألا أراكَ هناك، فنزل قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
• وتأمَّل في أُمنية ربيعة بن كعب الأسلمي، يوم أن قال: كنت أَبيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآتيه بوَضوئه وحاجته، فقال لي: ((سَلْ))، فقلت: أسألك مُرافقتَك في الجنة، قال: ((أوَغير ذلك؟))، قلت: هو ذاك، قال: ((فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود)).
كانوا لا يقدمون عليه أحدًا، فهذا مصعب بن عُمير يعود للمدينة بعد سنة من الدعوة والجهاد، فيَذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولاً، وكانت له أُمٌّ هو من أبرِّ الناس بها، فتُرسل أمه إليه تُعاتبه وتقول: يا عاقُّ، أتَقدَم بلدًا أنا فيه لا تَبدأ بي؟! فقال: ما كنت لأَبدأ بأحدٍ قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يُرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - مفاوضًا إلى قريش، وكانت قريش تحب عثمان، فعرَضوا عليه أن يطوف هو بالبيت، فقال: والله ما كنت لأَطوف قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
كانوا يتبرَّكون بآثاره - صلى الله عليه وسلم - يقول أنس - والحديث من رواية مسلم -: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحلاق يَحلقه وحوله أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجلٍ، وعند مسلم أيضًا من رواية أنس كذلك، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل بيت أُم سُليم، فيَنام على فراشها وليست فيه، قال: فجاء ذات يوم، فنام على فراشها، فأُتِيَتْ فقيل لها: هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرِقَ واستنقَع عرَقه على قطعة أَديمٍ على الفراش، ففتَحت عَتيدتها، فجعَلت تُنشِّف ذلك العرق، فتَعصره في قواريرها، ففزِع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما تَصنعين يا أُمَّ سُليم؟))، فقالت: يا رسول الله، نرجو بركته لصِبياننا، قال: ((أصَبتِ)).
إنه غاية التعظيم والتوقير والحب والطاعة والأدب؛ يقول المغيرة: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقرعون بابه بالأظافير؛ قال الصنعاني: والظاهر أنهم كانوا يقرعونه بالأظافير تأدُّبًا.
• تأمل لما نزَل قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2]، ظنَّ ثابت بن قيس أنه المقصود في الآية، فقد كان جَهْوَريَّ الصوت، فحبَس نفسه في بيته، يقول أنس - كما أخرج الإمام البخاري -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقَد ثابت بن قيس، فقال رجل: أنا أعلم لك عِلمه، فأتاه فوجده جالسًا في بيته، مُنكِّسًا رأسَه، فقال: ما شأنك؟ قال: شرٌّ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبِط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى بن أنس: فرجَع إليه المرة الآخرة ببِشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه، فقل له: ((إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة)).
فمن شِدة حبهم له كانوا - رضوان الله عليهم - يخافون أن يُؤذوه، ويَهابونه؛ حتى قال البراء بن عازب: لقد كنت أريد أن أسألَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأمر، فأؤخِّره سنين من هيبته، وهكذا سار على طريقهم العلماء والصالحون، فقد ناظَر أبو جعفر المنصور - أمير المؤمنين - الإمام مالكًا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفَع صوته، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا تَرفع صوتك في المسجد؛ فإن الله تعالى أدَّب قومًا، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: 2]، ومدَح قومًا، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحجرات: 3]، وذمَّ قومًا، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحجرات: 4]، وإن حُرمته ميِّتًا كحُرمته حيًّا، فاستكانَ لها أبو جعفر.
• تأمَّل في الفعل العجيب لابن الزبير، والحديث أخرجه البغوي وغيره، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يَحتجم، فلما فرَغ، قال: ((يا عبدالله، اذهَب بهذا الدم، فأهْرِقه حيث لا يراك أحدٌ))، وفي لفظ: ((فوارِه حيث لا يراه أحدٌ))، فلما برَز عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمَد إلى الدم فشرِبه، فلمَّا رجع، قال: ((يا عبدالله، ما صنَعت؟))، قال: جعَلته في أخفى مكانٍ علِمت أنه خافٍ عن الناس، فقال: ((لعلك شرِبته))، قلت: نعم، قال: ((ولِمَ شرِبت الدمَ؟! ويل للناس منك، وويلٌ لك من الناس))، قال أبو عاصم: كانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم.
لقد فداه علي - رضي الله عنه - يوم هجرته، وحماه أبو دُجانة في معركة أُحد يوم أن وقَف خلفه؛ ليَستقبل ظهرُه سهامَ المشركين.
إنها منزلة عظيمة ومكانة رفيعة، تلك المكانة التي كانت لرسول الله - عليه والصلاة والسلام - في قلوب ونفوس أصحابه.
ومما تقدَّم أيها الأحبة، نجد أن من لوازم هذه المنزلة:
• الإيمان به - عليه الصلاة والسلام - والإيمان بنبوَّته ورسالته.
• من لوازم هذه المنزلة: تصديقه فيما أخبَر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجَر.
• من لوازم هذه المنزلة: نُصرته والدفاع عنه، وتوقيره واحترامه.
• من لوازم هذه المنزلة: صيانة عِرضه وشرفه، والدفاع عن أزواجه.
• من لوازم هذه المكانة: الاقتداء بسُنته، والعمل بشرعته.
• من لوازم هذه المكانة: الحفاظ على مكانة أصحابه وأنصاره، والذين دافعوا عنه وذادوا عن حِياضه.
• من لوازم هذه المكانة: تقديم سُنته على الآراء والأهواء والعقول.
• من لوازم هذه المكانة: الدفاع عنه في كل حين؛ ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
والله من وراء القصد.