إِنَّ الْحَمْدَ للهِ ، نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِيْنُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ .وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، أَمَّا بَعْد :
هذا محمد - صلى الله عليه وسلم - لو كنتم تعلمون
د/ حسام الدين السامرائي
***
ثانيًا: منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء:
أرأيت قصرًا جميلاً: أبوابه عالية، جُدرانه من الرُّخام اللامع، شبابيكه من نُحاس برَّاق، سلالمه من الفِضة، طِلاؤه يَبهَر الألباب، إنارته تراها من مكان بعيدٍ؟!
لكن يَنقصه حجر ولَبِنة في تلك الزاوية، فلو وُضِعت في محلها، لكان المنظر أجملَ ما يكون.
هكذا يصوِّر النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانته ومنزلته بين الأنبياء؛ فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلي ومَثَل الأنبياء كمثل رجلٍ بنى بنيانًا، فأحسَنه وأجمَله، فجعل الناس يطوفون به ويقولون: ما رأينا بنيانًا أحسنَ من هذا، إلا هذه اللبنة، فكنتُ أنا تلك اللبِنة)).
لا أريد في هذا المقام المفاضلةَ بين الأنبياء، فنحن مأمورون بحبهم جميعًا؛ قال تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].
والتفريق بين الأنبياء من سِمات اليهود؛ كما قال ربنا - سبحانه -: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87].
وليس المقصد من ذِكر فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقاصَ بقيَّة الأنبياء، لكنه من باب ذِكر الفضل لصاحب الفضل، فالله فاضَلَ بين أنبيائه، فقال: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253].
ودعونا نتأمَّل في فضله - صلى الله عليه وسلم - ومكانته بين الأنبياء، حينها سنَعرف قدره على الحقيقة؛ يقول الله تعالى مخاطبًا رُسله وأنبياءَه: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾[آل عمران: 81].
فالله - جل وعلا - أخذ ميثاقًا على الأنبياء جميعًا: آدم، نوح، إبراهيم، موسى، وحتى ختَمهم بعيسى - أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويَنصروه، وهنا نراهم - أي: الأنبياء - يُبشِّرون قومهم بمَقدمه؛ نُصرة له - صلى الله عليه وسلم - تأكيدًا على هذا الميثاق.
قال إبراهيم وإسماعيل: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].
وقال عيسى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].
وقال موسى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
فالأنبياء جميعًا - صلوات الله وسلامه عليهم - بشَّروا بمَقدمه، وما ذاك إلا لمنزلته ومكانته عندهم.
• تأمَّل منزلته بين الأنبياء وهو يصلي بهم إمامًا يوم أن أُسرِي به إلى بيت المقدس.
• تأمَّل منزلته بين الأنبياء؛ كما في حديث الشفاعة الطويل: ((أنا سيِّد الناس يوم القيامة، وهل تَدرون ممَّ ذلك؟ يَجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، يُسمعهم الداعي، ويَنفُذهم البصر، وتدنو الشمس منهم، فيبلغ الناس من الغم والكَرب ما لا يُطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما قد بلَغكم؟ ألا تَنظرون مَن يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدمَ، فيأتون آدمَ، فيقولون: يا آدمُ، أنت أبونا، أنت أبو البشر، خلَقك الله بيده، ونفَخ فيك من رُوحه، وأمر الملائكة، فسَجدوا لك، اشفَع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغنا؟ فيقول لهم آدمُ: إن ربي قد غضِب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصَيته؛ نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيقولون: أنت أول الرُّسل إلى أهل الأرض، وسمَّاك الله: عبدًا شكورًا، اشفَع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغنا؟ فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضِب اليوم غضبًا لم يَغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتُ بها على قومي؛ نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليلُه من أهل الأرض، اشفَع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضِب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يَغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذَبت ثلاث كَذبات؛ نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضَّلك الله برسالاته وبكلامه على الناس، اشفَع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضِب اليوم غضبًا لم يَغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتَلت نفسًا لم أُومَر بقَتلها؛ نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريمَ، وروح منه، وكلَّمت الناس في المهد، اشفَع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضِب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله؛ نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، اشفَع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغنا؟ فأنطلِق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي ويُلهمني من محامده وحُسن الثناء عليه شيئًا لم يَفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفَع رأسك، سَلْ تُعطَ، واشفَع تُشفَّع، فأرفع رأسي، فأقول: يا رب، أُمتي، أُمتي، فيُقال: يا محمد، أَدخِل الجنة من أُمتك مَن لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفسي بيده، إن ما بين مِصراعين من مصاريع الجنة، لَكَمَا بين مكة وهَجَر، أو كما بين مكة وبُصرى))؛ صحيح الجامع، برقْم (2346).
وهذا هو المقام المحمود الذي تَحمده كلُّ الخلائق عليه.
يتبع...