إِنَّ الْحَمْدَ للهِ ، نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِيْنُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ .وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، أَمَّا بَعْد :
هذا محمد - صلى الله عليه وسلم - لو كنتم تعلمون
د/ حسام الدين السامرائي
***
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيقول أحد المستشرقين واصفًا إمام المرسلين وخاتم النبيين: "لو لم يكن لمحمدٍ معجزة إلا أنه صنَع أُمة من البدو، فجعلها أُمة كبرى فيالتاريخ، لكفَتْه معجزة في العالمين".
وكما قال المثل العربي القديم: والفضل ما شهِدت به الأعداءُ.
إنه محمد سيد الخلق، وإمام الحق، الذي تطاوَل عليه الجاحدون، وانتقص منه السُّفهاء والمُبطلون، وكاد له الضالون المُنحرفون.
فمنذ بَعثته - عليه الصلاة والسلام - وهو يُصارع أهل الطُّغيان بالبيان تارة، وبالسِّنان تارة أخرى، فوصَفوه بالكذاب والشاعر، والمجنون والساحر، وليس ذلك الوصف له فحسب، بل إنه وصفٌ لكل من سبَقه من الأنبياء والمرسلين، والصلحاء المُتقين؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 31].
وما نزال بين آونةٍ وأخرى نسمع ونرى صِنفًا من أولئك الحاقدين، يرفعون أصواتهم هنا أو هناك، وهم يحاولون تَغطية ضوء شمس النبوَّة بغربال الشُّبهة تارة، والسخريةِ تارة أخرى، ولكي لا تكون أفعالنا ردودَ أفعالٍ؛ فإننا سنقف متأمِّلين؛ لنعرف منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومكانته عند الله، وعند الأنبياء، وعند الأصحاب، وحينها سنعرف قدر هذا النبي الكريم، وما يجب علينا فِعله تُجاهه.
أولاً: منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ربه:
فقد أخرَج البخاري ومسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا سيِّد ولدِ آدمَ يوم القيامة، وأول مَن يَنشق عنه القبر، وأول شافعٍ، وأول مشفَّع)).
إنه محمد - صلى الله عليه وسلم - أقربُ الخلق إلى الله وسيلةً، وأسمعهم لديه شفاعة، أرسله ربه بالإيمان مناديًا، وإلى الجنة داعيًا، وإلى الصراط المستقيم هاديًا، فرفَع قدره، وأعلى منزلته، وشرَح صدره، وجعل الذِّلة والصَّغار على مَن خالف أمره.
دعونا نتأمَّل في منزلته عند ربه، وما يترتَّب عليها من عملٍ، أخي المسلم أُختي المسلمة، لتَعرِف قدر نبيِّك عند الله، إليك الآتي:
1- تأمَّل في اصطفائه على البشرية:
قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
ويؤكد هذا الاصطفاءَ ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث واثلة بن الأَسْقَع، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله اصطفى كِنانة من ولَد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)).
وهكذا نرى أنه - عليه الصلاة والسلام - مختار ومصطفًى وهو في صُلب آبائه؛ كما قال - عز وجل -: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ [الشعراء: 217 - 219]؛ أي: وأنت تَتنقل في أصلاب آبائك المؤمنين: آدمَ وإبراهيمَ وإسماعيل.
2- تأمَّل كيف رفَع الله له ذِكره:
فاليوم لا يُذكر اسم الجلالة في التشهد إلا ويُقرَن بذِكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُرفع كلَّ حين في الأذان، فلا يقال: لا إله إلا الله، إلا ويَتبعها محمد رسول الله، ومَن يُقر بالأولى، فيَلزمه الإقرار بالثانية، ولا تستقيم الشهادة لدخول الإسلام إلا باقتران الشهادتين، ومَن فرَّق بين الشهادتين، فأقرَّ بالأولى وأنكر الثانية، فإنه بعيد عن دائرة الإيمان، وقريب من دائرة الكفر والعياذ بالله، فكما أنك أيها المسلم تُقر بوحدانيَّة الله وربوبيَّته، وأسمائه وصفاته، فكذلك لا بد أن تُقِرَّ بوحدانية الاتِّباع للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو مفهوم عبارة: "أشهد أن محمدًا رسول الله"، وهو طاعته فيما أمَر، وتصديقه فيما أخبَر، والانتهاء عما نهى عنه وزجَر.
قال - جل وعلا -: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 1 - 4].
فالله - عز وجل - رفَع ذِكر نبيه، وهذه دَلالة واضحة على عظيم منزلته ومكانته عند ربِّه؛ حتى قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - شاعر الرسول مبيِّنًا تلك المنزلةَ:
وَضَمَّ الإلهُ اسمَ النبي إلى اسْمِه
إذا قال في الخَمس المؤذِّنُ: أشْهَدُ
وشَقَّ له من اسْمه ليُجلَّه
فذُو العرش محمودٌ وهذا مُحمَّدُ
3- لتعرف منزلته عند ربه؛ تأمَّل في حب الله له:
ونحن نقرأ القرآن يَستوقفنا القسَمُ الرباني بعُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - واللهُ - عز وجل - لا يُقسم إلا بعظيم، فقال - سبحانه -: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: 72].
فلم يُقسم ربُّنا بحياة أحدٍ إلا رسوله - عليه الصلاة والسلام - بل اتَّخذه خليلاً، فقال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: ((وقد اتَّخذ الله صاحبكم خليلاً)).
والخُلة أعلى درجات المحبة، فالخليل لا يُفارق خليله ولا يتركه، وهو معه على الدوام؛ قال - عز وجل -: ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 3]؛ أي: لا يَتركك ربك من ملازمة الخُلة، بل سيُعطيك حتى تَرضى: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 5].
• فأرضاه في قِبلته: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ [البقرة: 144].
• وأرضاه في حاله: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130].
• وأرضاه في أُمته، فكانت خيرَ أُمة أُخرِجت للناس.
• وأرضاه في كتابه؛ ليكون مُهيمنًا على الكتب.
• وأرضاه في نبوَّته؛ ليكون خاتم النبيين.
• وأرضاه في أصحابه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100].
يتبع...