معني المباهلة - المباهلة في الإسلام
بعد أن تحقّق النصر للدعوة ونبيّها الكريم محمّد (ص) في
أرجاء الجزيرة ، وتمّ فتح مكّة والطائف ودُمِّرَت معاقل الشِّرك والوثنيّة
وظهر الاسلام كقوّة عقيدية وسياسية وعسكرية ؛ أخذت وفود العرب تَفِدُ على
رسول الله لِتُعْلِنَ إسلامها وولاءها ، فوفد على رسول الله ثلاثة
وثلاثون وفداً يمثِّلون قبائلهم ، وأخذ رسول الله يوجِّه كتبه ورسله إلى
الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الاسلام من منطق القوّة والوثوق بالوعد الالهي
بالنصر المؤزر ، وكان ممن وجّه إليهم كتبه ، هم أساقِفَةُ نجران يدعوهم
إلى الاسلام ويعرّفهم بدعوته . ونصّ كتابه المبارك هو :
«بسم الله ، من محمّد رسول الله إلى أساقفة نجران : بسم
الله فإنِّي أحمدُ إليكم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، أمّا بعد
ذلكم فإنِّي أدعوكم إلى عبادة الله مِن عبادةِ العِبادِ ، وأدعوكم إلى
ولاية الله مِن وِلاية العِبادِ ، فإنْ أبيتم فالجزية ، وإنْ أبيتم
آذَنتكم بحرب ، والسلام» .
حلّ هذا الكتاب الّذي خاطب زعماء النصارى في نجران في بلاد
اليمن ، مثل انطلاقة جديدة تستهدف إحلال الدين الاسلامي وفق السنن
الالهيّة محلّ الديانة المسيحية بعد أن حُرِّفَتْ وبعد أنْ قَضَى الله
سبحانه نَسْخَها ، وإن كانت صحيحة ، وفي الرِّسالة نُلاحظ أنّ الرّسول (ص)
حاول أن يُرْجِعَهُم إلى اُصول العقيدة التوحيدية الّتي بشّر بها إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب لاتفاقهم معه ، أنّ هؤلاء هم رسل الله ،
ولِيُثْبِتَ لهم أنّه نبيٌّ يدعو بدعوة الانبياء .
ثمّ إنّنا نشاهد في هذه الرِّسـالة منطق القوّة الّتي
يُخاطَبُ بها المُعانِدون ، إنْ لم يستجيبوا لمنطق الحق ، ودعوة العقل
السليم .
لقد أحدثَ هذا الكتاب هزّة عنيفة في كيان النصارى في بلاد
اليمن ، ورأوا أنْ يَقدموا على رسول الله (ص) بوفد يخوض حواراً عقيديّاً
وفكريّاً ، توجّه الوفد برئاسة أبي حارثة الاُسقُف ومعه العاقِب والسيِّد
وعبدالمسيح وكوز وقيس والايهم ، فوصلوا المدينة ودخلوا على رسول الله (ص)
في مسجده الشريف وهم متباهون بزينتهم وحُلِيِّهِم ظانِّين أنّ ذلك يؤثِّر
على موقف رسول الله (ص) النفسيّ . وحين رآهم رسول الله متظاهرين بمظاهر
العظمة المزيّفة قال لاصحابه: «دعوهم». ثمّ التقوا رسولَ الله ، وبدأ
الحوار والمساءلة طوال ذلك اليوم . ثمّ سأل أبو حارثة رسولَ الله : «يا
محمّد ! ما تقول في المسيح ؟ قال : هو عبد الله ورسوله . فقال أبو حارثة :
تعالَى الله عمّا قلت» .
وكان يظنُّ في المسيح ظنّ الرّبوبية ، وحين اشتدّ إصرارهم
على القوّة من عقيدة الشِّرْك وتأليه المسيح ورفض نبوّة محمّد (ص) ، أراد
الله سبحانه أن يُظْهِر لهم نبوّة محمّد (ص) بإجابة دعوته وبطلان عقيدتهم
ودعواهم ، فأنزل الله على نبيِّه آية المباهلة ، قال تعالى :
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ ا
لْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل
فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى ا لْكَاذِبِينَ ).(آل عمران/61 )
استمع الرّسول (ص) إلى البيان الالهي . فَأصْغَى إلى كلمة
الفصل والنص السماوي له . إنّهُ حجّة إعجازيّة تُضاف إلى حجّته الفكـرية
والمبدئية ، وإذن توجّه الرسول (ص) بالخطاب إلى وفد النصارى :
«إن لم تُؤمنوا بي وتُصدِّقوني ، فتعالَوا نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لعنةَ اللهِ علَى الكاذِب ونَنْتَظِرْ مَنْ سيَقَعُ عليهِ
العَذابُ والعِقابُ الالهي فهوَ على باطل ، فقالوا للنبيّ : نُباهِلُكَ
غداً» .
ثمّ اجتمعوا فتحاوروا وتشاوروا بينهم، فقال أبو حارثة
لوفده : «اُنْظُروا مَنْ جاءَ معه ، وغدا رسول الله آخذاً بيد الحسنِ
والحسينِ تتبعُهُ فاطمةُ ، وعليّ بن أبي طالب بين يديه ، وغدا العاقِبُ
والسيِّدُ بِابْنَيْنِ لهما عليهما الدُّرُّ والحُلِيُّ ، وقد حَفّوا بأبي
حارثة ، فقال أبو حارثة : مَنْ هؤلاءِ مَعَه ؟ قالوا : هذا ابن عمِّهِ ،
وهذهِ ابنتُهُ ، وهذانِ إبناها ، فجثا رسولُ الله على ركبتيه ثمّ رَكَعَ ،
فقال أبو حارثة : جثا واللهِ كما يجثو النبيّونَ للمباهلة» .
وحين شاهد الوفدُ ورئيسُهُ ذلك المنظَر النبويَّ
المجَلَّلَ بالصِّدْق والخُشوع والثِّقَةِ بنتائجِ المباهلة دخلَ الرُّعب
إلى نفوسهم، فقال السيِّد رئيس الوفد: «اُدْنُ يا أبا حارثة للمباهلة ،
فقال إنّي أرى رجلاً حَريّاً على المباهلة وإنّي أخاف أن يكون صادقاً ،
فإنْ كان صادقاً لم يَحُلِ الحولُ وفي الدُّنيا نصرانيّ يُطعَمُ الطّعامَ .
قال أبو حارثة : يا أبا القاسم لا نباهلك ، ولكنّا نعطيك الجزية ،
فصالحهم رسول الله على ألفي حُلَّة مِنْ حُلَلِ الاواقي ، قيمة كلّ حلّة
أربعون درهماً ، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك».
تجلّى الموقف وخرج رسول الله (ص) منتصراً ظافراً ، وخرج
الوفد يجرّ أذيال الخنوع والتسليم لارادة الحق. فرّوا من المباهلة ورضوا
بالجزية مستفيدين من تسامح الاسلام وإقراره لاهل الكتاب على دينهم ، وهو
ما صرّح به الرّسول (ص) في كتابه لهم : «إنِّي أدعوكم إلى عبادة الله ،
فإن أبَيْتُم فالجزية ، وإنْ أبيتم آذنتكم بحرب» .
وبعد أن استقرّ الموقف بين الرّسول (ص) وبين وفد النصارى ، كتب كتاب الصّلح وأشْهَدَ على ذلك شُهوداً .
ويذكر المؤرِّخون أنّ الايهم وهو أحد أفراد الوفد أعلن
إسلامه عند قدوم نجران وأقبل على بلاده وهو يعتنق الاسـلام متأثِّراً
بحادثة المباهلة ودلالتها على صدق النبوّة .
وقد دلّت حادثة المباهلة على صدق دعوة الرّسول (ص) وثباته ،
كما أنّ في تعبير الآية المباركة عن الحسن والحسين (ع) بـ (أبناءنا) أي
أبناء الرّسول (ص)، وعن فاطمة (ع)
بـ (نساءنا) ، وعن عليّ (ع) بـ (أنفسنا) نسبة لهم إلى رسول الله (ص) ، دلالة بالغة على مكانة أهل البيت (ع) .
قال الزمخشري في سياق تفسير آية المباهلة :
«وقدّمهم في الذِّكر عَلَى الانْفُس لِيُنَبِّهَ على لُطفِ
مَكانِهِم وقُرْبِ مَنْزِلَتِهِم ، ولِيُؤْذِنَ بأنّهم مُقدّمونَ علَى
الانْفُس مُفْدَوْنَ بها ... وفيه دليلٌ لا شيءَ أقوى منه علَى فَضْلِ
أصحابِ الكساء».