السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السؤال:
منذ أربع سنوات قدمت إلى بريطانيا للعمل والإقامة ، فأشار عليّ شخص أن أقدم أوراقي لطلب حق اللجوء ففعلت ، ولكي تسهل المعاملة أشار عليّ بالقول أن سبب طلبي للجوء هو تغيير ديانتي ، وأني ارتددت عن الإسلام ، وذهبت إلى الكنيسة عدة مرات ، ولكني في قراره نفسي لم أغير ديني ، ولم أحد عن الإسلام قيد أنمله. ثم بعد ذلك أدركت عظيم وزري وخطير فعلي فتبت إلى الله مراراً ، فهل قُبلت توبتي؟ وهل ما زلت على الإسلام ، أم أني سأموت كافراً أو مشركاً أو مرتدا ؟ أرجو التفصيل فالأمر مخيف.
الجواب :
الحمد لله
لا شك أن ما فعلته إثم عظيم وذنب جسيم ، وماذا بعد تعريض المرء دينه للخطر لغرض من أغراض الدنيا وعرض من أعراضها خسيس ؟! وقد روى مسلم في "صحيحه" (118) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا )
والتكلم بكلمة الكفر أو فعل ما يقتضي الكفر لا يجوز لتحصيل غرض من الأغراض إلا في حالة الإكراه ، وهو مؤذن بذهاب الدين بالكلية ، إلا أن يتوب صاحبه توبة نصوحا صادقة من قلبه .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ فِي التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ ، إلَّا الْمُكْرَهَ إذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَأْذَنُونَ فِي كَلِمَاتٍ وَأَفْعَالٍ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ ، وَيَقُولُونَ: إنَّهَا كُفْرٌ ، حَتَّى قَالُوا : لَوْ قَالَ الْكَافِرُ لِرَجُلٍ : " إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ " فَقَالَ لَهُ: " اصْبِرْ سَاعَةً " فَقَدْ كَفَرَ ، فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الْكُفْرِ ؟ " انتهى من "إعلام الموقعين" (3/ 141)
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني : " فإن عصى بقول أو فعل نص الله تعالى ورسوله ، أو أجمع المسلمون أنه لا يوجد إلا من كافر ، أو يقوم دليل على ذلك فقد كفر " اهـ.
وقال أبو البقاء في "كلياته" (ص 764) : " والكفر قد يحصل بالقول تارة وبالفعل أخرى ، والقول الموجب للكفر إنكار مجمع عليه فيه نص ، ولا فرق بين أن يصدر عن اعتقاد، أو عناد، أو استهزاء ، والفعل الموجب للكفر هو الذي يصدر عن تعمد ، ويكون الاستهزاء صريحاً بالدين ، كالسجود للصنم " اهـ.
قال القونوى : " ولو تلفظ بكلمة الكفر طائعاً غير معتقد له يكفر ، لأنه راض بمباشرته وإن لم يرض بحكمه ، ولا يعذر بالجهل، وهذا عند عامة العلماء ، خلافاً للبعض .
وفيه أيضاً: " ثم اعلم أنه إذا تكلم بكلمة الكفر ، عالماً بمبناها ولا يعتقد معناها، لكن صدرت عنه من غير إكراه ، بل مع طواعية في تأديته ، فإنه يحكم عليه بالكفر بناءً على القول المختار عند بعضهم " انتهى من "إكفار الملحدين في ضروريات الدين" (ص: 69) .
وقال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله :
" التلفظ بكلمة الكفر يوجب الحكم بالردّة ، لكن في حال الإكراه ينفي وجوب الحكم بردّة المكره " انتهى من "الحدود والتعزيرات عند ابن القيم" (ص: 443) .
فما فعلته من الإقرار لهم قولا ، أو كتابة أنك ارتددت عن الإسلام ودخلت النصرانية ، وإن لم تكن قصدت الردة ، ثم ذهابك إلى الكنيسة مرارا ، وذلك لغرض خسيس وهو الالتحاق ببلاد الكفر وترك بلاد الإسلام ، لا شك أنه من الطوام المهلكات ، وهو عند كثير من أهل العلم من الكفر بالله العظيم ، ومن الردة عن دين الإسلام ، والاستخفاف بشأنه واللعب به .
ولا مخرج لك من ذلك البلاء والجرم الخطير : إلا أن تتوب إلى الله جل جلاله ، وترجع إلى إسلامك من جديد ، وتجدد إيمانك ، فتنطق بالشهادتين ، وتقيم أمر دينك كما أمرك ربك .
ولتنأ بنفسك عن موطن الفتنة بالشرك وأهله ، وينبغي لك أن تترك البلاد التي أوقعتك في الشرك بالله ، وتقيم في بلدك ، أو حيث تأمن على دينك من الفتن .
قال الله تعالى :
( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الفرقان/ 68 - 70
قال ابن القيم رحمه الله :
" قد استقرت حكمة الله به عدلا وفضلا : أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنا ، أنه يبدل سيئاته حسنات ، وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب ، وقد قال تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد ، ولكن هذا في حق التائبين خاصة " انتهى من "الجواب الكافي" (1 / 116) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" من يتكلم بما يوجب ردته : عليه التوبة ويستحب له الغسل ، وقال بعض أهل العلم يجب الغسل ، وقول الوجوب فيه خلاف بين العلماء ، والأحوط والأقرب أنه مسنون مشروع ، وإنما الواجب التوبة والرجوع إلى الله والإنابة إليه والندم على ما مضى منه ، والإقلاع من معصيته وكفره ، والتوبة إلى الله والعزم الصادق على ألا يعود لذلك ، وبذلك يتوب الله عليه ، وقال تعالى : ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) . فإذا تكلم بكفر، بأن سب الدين أو تنقص الدين، أو سب الصحابة أو ما أشبه ذلك، يجب أن يرجع إلى التوبة " .
انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (4/ 167) .
وللفائدة : راجع إجابة السؤال رقم (159280) .
فأحسن الظن بالله ، وتوجه إليه بالتوبة والعمل الصالح والتوحيد الخالص والندم الأكيد ، ولا داعي لهذه الوساوس والخطرات التي قد تقنطك من رحمة الله ، ولا أحد من الخلق يعلم علام يموت ؟ فبادر بالتوبة يا عبد الله ، وأقلع عن الشرك وأهله ، وفعله وقوله ، وأحسن فيما تبقى من أجلك ، لعل الله أن يجبر كسرك ، ويغفر لك ما قد فات .
والله أعلم .
موقع الإسلام سؤال وجواب