البريق الذي يلمع في أعين الأطفال حين يرون المال يثبت إدراكهم منذ نعومة أظفارهم لأهمية هذه العملات المعدنية والأوراق النقدية، ومعرفتهم أن امتلاكها يعني تحقيق الكثير من الأهداف: شراء الحلوى من السوبر ماركت، والتبرع للمسجد، ومساعدة المحتاج، والذهاب للطبيب والحصول على الدواء، أو السفر إلى الخارج. وتقع المسؤولية على عاتق الأهل في تعليم الطفل كيف يتعامل مع النقود، ليصبح بعد ذلك إنسانًا مدبرًا، منظمًا في علاقته بالمال، أو ليصبح مسرفًا أو مقترًا غير قادر على الاعتدال في الإنفاق.
أول مصروف للجيب
توصلت دراسات علمية متخصصة عديدة إلى أن اهتمام الطفل بالمال بصورة متزايدة يتزامن مع بلوغه سن الخامسة، وعندها يمكن للأهل أن يبدؤوا في إعطائه مصروف الجيب، أو بأسلوب آخر: حينما يتوقف الطفل عن وضع العملات المعدنية في فمه، يمكن وضعها في يده، لأنه يعطي الطفل الشعور بأن الكبار يأخذونه مأخذ الجد، وأنه أصبح يتمتع نسبيًا ببعض الاستقلالية، كما أن مصروف الجيب يعلمه كيفية تقسيم المال على الاحتياجات.
وتتحدد قيمة مصروف الجيب وعدد مرات دفعه أسبوعيًا أو شهريًا، حسب عمر الطفل، فعلى سبيل المثال لا يستطيع الأطفال حتى سن التاسعة استيعاب الفترات الطويلة، ولذلك فمن الأفضل منح الأطفال في الفئة العمرية التي تتراوح بين الخامسة والتاسعة مصروف الجيب بصورة أسبوعية، وبدءًا من سن عشر سنوات يمكن أن يتم دفع المصروف كل أسبوعين، وبتقدم السن يصبح الدفع مرة كل شهر.
مقدار مصروف الجيب
إذا اعتبرنا أن متوسط دخل الفرد في دول أوروبا الغربية يبلغ حوالي 2000 يورو شهريًا، فإن الدراسات الغربية تحدد قيمة المصروف تبعًا لذلك على النحو التالي:
وحتى تكون الصورة واضحة للقارئ، فإن مبلغ نصف اليورو (ريالين سعوديين تقريبًا) يكفي لشراء رغيف خبز صغير، أو علبة عصير، أو آيس كريم متواضع، أو دفتر دراسي قليل الأوراق، أو لعبة قديمة يبيعها الأطفال لبعضهم في أسواق نهاية الأسبوع. أما اليورو فبالكاد يكفي لشراء تذكرة ركوب الباص لمرة واحدة، أو وردة، أو ساندويتش هامبورجر بدون مشروب، أما دخول مدينة الملاهي فيتكلف حوالي 15 يورو، وكذلك سعر التي شيرت حوالي 10 يورو.
ومقارنة بالأوضاع في الدول العربية، فإن مبلغ الريالات العشرة، يكفي لشراء ساندويتش شاورمة مع المشروب، أو ركوب الحافلة لمسافة كبيرة، أو شراء عدد من مجلة (المعرفة).
فإذا علمنا أن متوسط دخل الفرد في غالبية الدول العربية، حتى النفطية منها لا يصل إلى هذا المبلغ، فإن مصروف الجيب للأطفال في الكثير من الأحوال يكون أكثر من ذلك، مما يعني أن الخطأ الأول يأتي من الأسرة التي تجعل الطفل لا يدرك قيمة المال، ولا كيفية التصرف فيه، فالمثل الإنجليزي يقول (إيزي كوم إيزي جوز. ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة).
وحتى هذه المبالغ المذكوره أعلاه، ليست نصًا مقدسًا يلتزم بها الجميع، إذ لابد من مراعاة الحالة المادية للأسرة، وعلى الطفل أن يفهم أنه جزء منها، يحصل منها على قدر ما يتوفر للأسرة ككل، ولا يحق له أن يكون أنانيًا، يفكر في نفسه، ويطالب بحقوق –ليست حقوقًا في الأصل- بغض النظر عن بقية أفراد الأسرة. وإذا أدرك الطفل ذلك، وتعلم من الصغر هذه الخلفيات، فإنه لن يشعر بعقدة نقص أمام زملائه الذين يحصلون على مصروف أعلى منه.
وإذا علمنا أن واحدة من أغنى دول أوروبا الغربية وهي ألمانيا مثلًا، يعيش فيها حوالي مليونين ونصف مليون طفل وشاب على الإعانات الاجتماعية، فإن هؤلاء جميعًا لا يمتلكون الملابس ذات الماركات الغالية، ولا يسجلهم أهلهم في النوادي الرياضية ولا في دورات اللغات الأجنبية، والموسيقا، وغيرها، إذا علمنا ذلك أدركنا أن الطفل العربي يجب أن يتعلم النظر إلى نصف الكوب الممتلئ، لا النصف الفارغ، وأن يرضى بما قسم الله له، دون أن يعني ذلك تواكل الوالد وتقاعسه عن السعي وراء الرزق.
وجود نظام يعفي من الحرج
ينصح خبراء التربية بأن يتفق الأهل مع أبنائهم عما يتحمل الأطفال دفعه من هذا المصروف، وهل يشمل مثلًا شراء تذاكر المواصلات، ورسوم دخول حمام السباحة، وشراء الهدايا للأصدقاء في المناسبات، وعندها لابد من ارتفاع هذا المصروف ليغطي كل هذه النفقات. أما عندما يكون المصروف مخصصًا للنفقات الترفيهية فقط مثل الأيس كريم، أو مجلات الأطفال، أي أشياء ليس الطفل في حاجة ماسة إليها، فإن مقداره يكون أقل بكثير.
كما ينصحون بأن يتفق الأهل مع أبنائهم على قيمة المصروف، وموعد دفعه أسبوعيًا، بحيث لا يضطر الطفل إلى الاستجداء، ولا يصيبه الإحباط من عدم حصوله على مبلغ أكبر، كأن يأمل أن يناله هذه المرة. ومن الممكن مثلًا الاتفاق على تسليم الطفل مصروفه الأسبوعي بعد العودة من صلاة الجمعة، وإذا كانت هناك نفقات إضافية لازمة فيمكن للأهل أن يستمعوا إلى المبررات التي يسوقها الطفل، بشرط وجود حدود لا يتم تجاوزها، فإذا أراد الطفل سلعة تزيد قيمتها على 50 يورو، فلابد أن يقوم الأهل بشرائها بأنفسهم، وبشرط قيام الطفل بإنجاز كبير، أو في مناسبة غير عادية، ينتظر الطفل قدومها، فيتعلم الصبر والمثابرة، ويتعلم أن الفرح بقرب تحقق الحلم لا يقل عن السعادة بالحلم نفسه.
وينبغي أن يكون الطفل حرًا في إنفاق هذا المبلغ بصورة مستقلة نسبيًا، حتى لو اشترى به كله آيس كريم في دقيقة واحدة، حتى يتعلم من أخطائه، طالما لم تكن أخطاء فادحة. ولا ينبغي بحال استخدام مصروف الجيب كأسلوب للضغط على الطفل، ولا حرمانه منه بسبب خطأ بدر منه، بل لابد أن يدرك أنه حق له وليس وسيلة لعقابه.