كنابالأمس القريب نتلقى التهاني بقدوم شهر رمضان، ونسأل الله بلوغه واليوم نتلقى التعازي برحيله ونسأل الله قبوله.
بالأمس كنَّا نترقبه بكل فرحٍ وخشوع واليوم نودِّعه بالأسى والدموع, وتلك سنة الله في خلقه, أيامٌ تنقضي, وأعوامٌ تنتهي, إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
ما أسرع ما تنقضي الليالي والأيام! وما أعجلَ ما تنصرم الشهور والأعوام! وهكذا حال الدنيا، سريعةُ الزوال، قريبةُ الاضمحلال، لا يدوم لها حال، ولا يطمئن لها بال، وهذه سُنة الله في خلقه.
مضى هذا الشهر المبارك، وقد أحسن فيه أناسٌ، وأساء آخرون, وهو شاهدٌ لنا أو علينا, شاهدٌ للمشمِّر بصيامه وقيامه، وعلى المقصِّر بغفلته وإعراضه, ولا ندري هل سندركه مرَّةً أخرى، أم يحول بيننا وبينه هادم اللذَّات، ومفرِّق الجماعات؟
فسلام الله على شهر الصيام والقيام, لقد مرَّ كلمحة برقٍ، أو غمضة عين.
كان مضمارًا يتنافس فيه المتنافسون, وميدانًا يتسابق فيه المتسابقون, فكم من أكفٍّ ضارعةٍ رُفعت, ودموعٍ ساخنةٍ ذرفت, وعبراتٍ حرَّاء سُكِبت, وحُقَّ لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله، وموسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار.
لقد مرَّ بنا هذا الشهر المبارك كطيف خيال, مرَّ بخيراته وبركاته, مضى من أعمارنا، وهو شاهدٌ لنا أو علينا بما أودعناه فيه, فليفتحْ كلُّ واحدٍ منَّا صفحة المحاسبة لنفسه: ماذا عمل فيه؟
ماذا استفاد منه؟
ما أثره في النفوس؟ وما ثمراته في الواقع؟ وما مدى تأثيره على العمل والسلوك والأخلاق؟
وماذا بعد شهر رمضان؟
ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟
لننظرْ في حالنا، ولنتأملْ في واقع أنفسنا ومجتمعاتنا وأمتنا، ولنقارنْ بين حالنا قبل حلول شهر رمضان، وحالنا بعده, هل ملأت التقوى قلوبنا؟
هل صلُحت أعمالنا؟
هل تحسَّنت أخلاقنا؟ هل استقام سلوكنا؟
هل اجتمعت كلماتنا، وتوحدت صفوفنا ضد أعدائنا، وزالت الضغائن والأحقاد من نفوسنا؟
هل تلاشت المنكرات والأفراح والمحرمات من أسرنا ومجتمعاتنا؟
ما أجدر الأمة اليوم، وقد ودَّعت رمضان العزيز، أن تودِّع أوضاعها المأساوية، وجراحاتها المتعددة، في مواضع كثيرةٍ من جسدها المثخَن بالجراحات والآلام، ولن تجد لذلك سبيلًا ناجحًا وعلاجًا ناجعًا، إلا بمنطلقٍ من منطلقات دينها، وتمسُّكٍ بمنهاجٍ متكاملٍ من كتاب ربها، وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وإن من هذا المنهج، العمل الجاد، والصدق مع الله جلَّ وعلا، في نصرة دينه في كل مكان، والقيام بالواجب المحتَّم علينا، في رد الظلم والضرر، عن عباده المضطهدين، {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة:71].
ولنا مع رحيله وقفات:
منها: ما أُثِر عن سلفنا الصالح رحمهم الله: (بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان)، فربُّ الشهور واحد! وكم رأينا أناسًا، لا يعرف أحدهم طريق المسجد إلا في رمضان! وإنَّ خروج رمضان إيذانٌ منه، بآخر عهده بالصلاة والقيام والقرآن.
ومنها: الخوف من عدم القبول، ورد العمل، قال جلَّ شأنه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:60]، أي يعملون الأعمال الصالحة، وقلوبهم خائفةٌ ألاَّ يُتقَبَّل منهم؛ لأنهم موقنون باليوم الآخر؛ والرجوع فيه إلى الله عزَّ وجلَّ.
وأخيراً: لقد كان رمضان فرصةً للتغيير، فإياك يا من عقدتَ العزم على التوبة، وعاهدتَ الله على الاستمرار على الطاعة، أن تنكُص على عقبيك.
قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته)) رواه مسلم.
وعمل المؤمن لا ينقطع إلا بالموت، كما قال تعالى: {فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ} [هود:112]، وقال سبحانه: {وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ} [الحجر:99].