الشعر بين الحلم والكابوس
نزيه أبو عفش*
الشعرُ : أن يقف الإنسان عارياً على المنصة. وها أنا - عارياً - أقف عليها وأعترف. لعل الشعر، من بين النشاطات الإنسانية كلها، هو (ما لا أعرف عنه أي شيء) غير أنه نشاط ضميريّ خالص.
الشعر صوت الضمير. وطوال خمسة وثلاثين عاماً، هي عمر محاولاتي الشعرية الأولى، وأنا أحاول - بكثير من التعثر - أن أتبع هذا الصوت، مقتدياً - قدر الإمكان - بالأصداء الأولى، والعواطف الأولى، وأساليب القول الأولى التي كانت تقيس فضاءها كله بمقياس القلب، وترسم حياتها كلها مسترشدةً بأهواء القلب.
أعترف إذن، بحياء وتواضع شديدين، أنني أنتمي إلى جنس حزين من الشعراء لا يزال يؤمن أن القصيدة لا يمكن أن تنهض خارج فضاء العواطف النبيلة، والحواس اليقظة المدرَّبة - ربما بالفطرة - على التقاط النأمات الخافتة والسرية لقلب الإنسان. ثمة خيط غامض لا يزال يربطني بأساليب الشعراء والزجّالين الأوائل الذين لم يكونوا يعرفون عن الشعر غير أنه توثيق بالصورة والصوت لنبض القلب الإنساني، ونسمةُ حنان كريمةٌ تهبّ من الضمير على صحراء العالم.
الغنائية، العفوية، الطفولية، الاعترافية، العري الذاتي، الإيمانية، الحرارة الساذجة لصوت الإنسان، العاطفة (هذه الكلمة المرذولةُ والمبغَضة!…).. كلها مواد نبيلة وأساسية في بناء القصيدة وتشكيل صوت الضمير.
داخل هذه المواد المباركة، والمتواضعة إلى درجة محزنة، أحاول أن أبحث عن منالي الخاص، وبها أحاول أن أكتشف الطبقة الحقيقية لصوتي، بعيداً عن أوهام (التطرف الحداثوي) الذي - بحرصه على تحويل القصيدة إلى متاهة مقفلة - يدمر روح القصيدة ويفسد علاقتها المقدسة بالحياة.
وإذن، البساطة قبل كل شيء. ذلك أنني لا أرى أي فائدة ترجى من جعل القصيدة معقدة ومتوِّهة، أياً كانت الحيل التقنية التي يلجاً الشاعر إليها، وأياً كانت قدرتها على الإبهار.
ما يبهر في الشعر (في الفنون عامة) إنما هو البسيط، الحار، الأصيل، القادر على تأجيج شرارة الحنين إلى قيم الجمال الإنساني التي توشك أن تشيخ وتندثر.
بهذه العين البدائية، وبكثير من الخوف، أنظر إلى ما يُقترف باسم الحداثة من أخطاء وخطايا. فلقد تحولت (الحداثوية) - ولا أقول الحداثة- إلى أداة للإرهاب الجماليّ، أداة متسلطة.. عدوانية.. معادية ومحتقرة لروح الجمال، تدعو - باستعلاء شديد - إلى تجريد الإنسان من فضيلة الحنين، الحنين إلى لباسٍ.. إلى سلوك.. إلى عاطفة.. إلى مأكل.. إلى موسيقى.. إلى كل ما يشكل تذكاراً روحياً وثقافياً : تذكار حنين.
(أرجو ألا يُفهم كلامي على أنه دعوة لإحياء التقاليد المحنَّطة لمومياءات الماضي).
إن الكثير مما يقترف باسم الحداثة (وما بعد الحداثة!..) هو استغراق في خيانة اليومي: خيانة الحياة. فمع ازدهار الفوضى الكونية، وتقهقر قيم الجمال، وانعدام الثقة بروح الإنسان، تزدهر (حداثاتٌ) عقيمة.. بائسةٌ ومضلِّلة، حداثات عمياء تؤلّه كل ما من شأنه أن يجعل الحياة أشدّ عماءً، وروحَ الإنسان أكثر رثاثة، وأدواتِ صناعة الجمال أدواتٍ لتجميل البشاعة وتلطيف صورة المتاه!.. تزدهر حداثاتُ الجنون التي - في معظمها - ليست سوى شكل من أشكال الانحدار الأخلاقي في مواجهة القبح والتعاسة والألم وشقاء روح الإنسان؛ حتى لتكاد تلتبس علينا إمكانية التمييز بين ما هو معاصر فعلاً وبين ما هو خائن لجوهر المعاصرة ومثالها!!.. الموسيقى المعاصرة تلتبس في ما لا يمكن الإنصات إليه؛ الفن المعاصر (بعضُ الفن المعاصر) في ما لا يمكن التقاط رسالته؛ الشعر المعاصر.. في ما يجعل إدراك الفارق بين الإبداع والعبث مستحيلاً؛ والجمال.. في كل ما يحتقر مثال الجمال!..
: هكذا ينكسر المثال، وتتحول أوهام المعاصرة إلى أوهام جنون!!..
مع ذلك (تماماً كما أثق بقدرة الحياة على ترميم أعطابها) أثق أنه لن يأتي يومٌ لا يكون فيه موزارت مسموعاً. لن يأتي يوم تندثر فيه الحاجة إلى ما أبدعه حراسُ حياتنا الكبار: ميكل آنجلو، ودانتي، والمتنبي، وسرفانتس، وشكسبير، والمعري... وصولاً إلى تولستوي، وبيكاسو، ومحمود درويش...
لكنْ، بعد ألف سنة من الآن، إذا أتى ذلك اليوم وكنا ما نزال أحياء، فسأعمل بنصيحة شيخنا العظيم دستويفسكي.. واسحب اعترافي بالعالم.
شيئاً فشيئاً، إذن، تتحول الحداثة إلى مصيدة عمياء، مهيأة للفتك بكل ما هو حي وجميل ومخلص وأصيل؛ وما سبق أن كرّسَتْهُ ضمائر البشر كرسالة ذات هدف ومغزى.. يتحول مع الوقت إلى شيفرة سرية تلغي كل إمكانية للتواصل بين العابد والرسول!.. تحولت صناعة الرُسُل إلى صناعة عماء!..
رسلٌ؟.. بلى. على أنهم - بذريعة الحرية - لا يفعلون غير أن يحولوا الحرية إلى أداة لإعدام كل ما هو حارّ وجوهري وبسيط! إنهم - في الفن - يخافون من كل ما يمكن أن ينطوي على هدف: الحداثة هدفُ نفسها! الفن هدفُ نفسه! العماءُ هدفُ العماء!..
يخافون من العواطف الصريحة والحارة.. باعتبارها انعكاساً سوقياً ومبتذلاً لما يتوجب أن يكون عليه جوهر الفن (السامي والنقي)!..
يخافون من البساطة؛ البساطة التي هي بنتُ العذاب والدأب والمغامرات الشجاعة: إنهم حريصون دائماً على إنشاء متاهات ليس لها مخارج. إنهم يعيدون إنتاج العماء.
ما يطفو على السطح ليس هو ما يهم الشاعر. الشاعر معنيّ بما يحصل في (قاع المستنقع): الشاعر رسول القاع.. رسول قاع الحياة.
الحياة، بأهوالها وجنونها ومسراتها والتباسها، هي المادة الخام للشاعر. وأياً كانت طموحاته وأدواته وجرأته في ابتكار أساليب جديدة للتعبير.. فإن عليه، دائماً، ألاّ يخون منجمه الأساسي - الحياة. وبالتالي فإن عليه، دائماً أيضاً، أن يُبقي ذلك الخيط السّري أو الصريح بين مادته الخام ومادته المنجزة، واثقاً من أنه لن يستطيع - مهما بلغ شططه الحداثي - أن يحول الصلصال الرث إلى (جواهر مطبوخةٍ بحليب المجرّات)!..
الشعر - كسواه من الفنون والديانات - ليس مغامرة مجانية في الأشكال والأساليب، بل هو محاولة لترويضها بحيث تغدو قادرة على حمل الرسالة: الأشكال والأساليب ينبغي، قبل كل شيء، أن تعكس أصالة العقل والضمير.
انطلاقاً من هذا الإيمان يمكنني القول بكل بساطة: نعم، الحداثة (الحداثوية إن شئتم) مهدّدة بأن تتحول إلى كمين جائر يقتل ضمير الشاعر وضمير الشعر.
إن (حداثويي) عصرنا، فيما هم يحلقون عالياً فوق سطوح المستنقعات، يتعالون فوق قضايا مجتمعاتهم بذريعة الإخلاص للفن المطلق!..
الشاعر، في وقتنا وبلادنا، لا يستطيع إلا أن يكون متورطاً في أوحال المستنقع (دون أن يتنازل عن مثله الفنية والجمالية).
كل محاولة للتعالي على الحياة هي تَوَرُّطٌ في نقيضها.
كأنما يريد (دعاةُ الطهارة الفنية) بهذا التعالي، أن تظل أيديهم وثيابهم نظيفة من غبار الحياة ووحولها! هكذا تتسخ قلوبهم وضمائرهم، ويتحول كل ما أنتجوه من (رفيعِ الفن) إلى مجرد أسمالٍ رثة، فقيرة، مشبعة بمحاليل التنظيف!..
أتذكر، في هذا السياق، قولاً ليوحنا الذهبي الفم: (من الأفضل أن يكون الإنسان أقل فضيلة وطهارةً.. ويشارك في حياة الآخرين، من أن يصلي في أعالي الجبال مكتفياً بالنظر إلى إخوته يهلكون).
هؤلاء (المتطهرون) الذين عناهم يوحنا لا بد من تذكيرهم بأن القصيدة لا تنهض بالتأملات.. بل بعصارات الحياة ذاتها. القصيدة كائن يغتذي على معاناة صاحبه وآلامه وبسالاته ورماد حرائقه الروحية: كائن نبيلٌ ومفترس.. لا يغتذي إلا على قلوب صانعيه.
الشعر صوت (الأصالةِ). والأصالةُ هي الاسمُ الآخر للإخلاص.
وحين أقول (الأصالة). لا أعني الانصياع المطلق والأعمى لصوت الذات؛ طبعاً ولا إهمالَ ذلك الصوت وعدمَ الإنصات إليه؛ بل أن تكون لدى الشاعر المقدرة على سماع صوت العالم كمن ينصت إلى صوت نفسه: أن يتألم لا أن (يرى الألم). أن يكون شريكاً لا مجرد شاهد. أن يكون قطعة جوهرية من لحم العالم.. لا مجرد (يرقةٍ ذكية) تتنزه في خلايا ذلك اللحم وتقتات على آلامه.
الشعر صوتُ حياة، ورسالة حياة، وإيمانٌ خالص بقداسة مغزى الحياة. والحياة، بالنسبة للشاعر أو سواه، ليست موضوعاً.. إنها شأن.
كثير وكثير جداً من الشعر كُتبَ عن انتفاضة الأطفال (الأطفال الذين - في سعيهم إلى الحياة- لم يجدوا من الخيارات غير أن يحولوا إرادة الحياة إلى إرادة موت)..، لكن كثيراً من هذا الكثير لم يكن شعراً. كان مجرد إنشاء. ليس لأن كاتبيه لم يكونوا حسني النوايا، بل لأنهم ارتضوا أن يكونوا (وُصّافاً) عن بعد. كانوا (يتحدثون) عن موت الأطفال. لكن قليلين منهم استطاعوا أن يكتبوا (موت أطفالهم) لا موت أطفال (الآخرين).. أن يكتبوا (إصابتهم) بالموت لا إصابة الآخرين به (أقول: (قليلون).. ولعلّي أقصد محمود درويش). قليلون، إذن، الذين استطاعوا أن يكتبوا الموت الحقيقي، ذلك لأن الموت لم يكن مجرد موضوع: كان شأناً.
أن تكتب عن الموت يعني أن تكون قد نلت حصتك منه.. لا أن تكون قد شاهدته. إن كثيرين ممن يشاركون في المآتم يجهشون في البكاء، لكن قلوباً قليلة هي التي تتصدع: قلوب الأمهات، الآباء، الأحبة، الأصدقاء الأصدقاء.. التي هي كلها (على ما افترض) تمثل الصورة الأخرى لقلب الشاعر في مواجهة الموت.
إليكم الحكاية الصغيرة التالية:
في جنازة صَبيَّة أعرفها، كان مئات من المشيعين يبكون. وحدها (الأم) كانت تبدو كتمثال شمعيّ شاحب.. ذاهل.. وأعمى. لعلها لم تكن ترى غير صورة ابنتها مطبوعة على لحم الهواء. ولم تكن تبكي!.. كانت قبل أيام قد ودعت أخاها، وها هي الآن تودّع ابنتها.. ابنة قلبها. وفي اللحظة التي شرع فيها متعهدو الجنازة بإنزال التابوت في الأرض.. صرخت الأم: (ياخييّ دير بالك عليها)!..
ببساطة، كانت الأم تطلب من الأخ الميت أن يتولى برعايته الإبنةَ الميتة. كانت تطلب من الميت أن يكون بديلاً عن الله. ذلك كان نصيبها من الأمل.. ولعلها كانت على حق. كانت تطلب المستحيل!..
هذا المستحيل (العادل) هو واحد من مطالب الشعر، وبالتالي هو واحد من أكبر مصاعبه.
(ياخييّ دير بالك عليها): تلك كانت صرخة القلب. في هذه الصرخة التي لم تكن شعراً، ولا مرثيةً، ولا صلاة، استطعتُ أن أتعرّف إلى الشكل الحيّ لصوت القلب. تعرّفت إلى ما هو جوهري ومفتقَدٌ في صوت الشعر.
(ياخييّ الميت، دير بالك على بنتي الميتة!!..): هذه الضراعة كانت صوت الأسى الكلي، صوت (الأمل الكلي).. أو ربما صوت الانعدام الكلي للأمل.
وعلى مدى أيام وأسابيع، حاولت أن أجعل من هذه الصرخةِ - الضراعةِ - العذابِ - الألمِ - الفقدان.. شعراً، أو ما هو قريب من الشعر. كان ذلك مستحيلاً استحالة قدرةِ الإنسان على تخيُّلِ أنه مصابٌ بالموت، لأنني - بطبيعة الحال - كنت مجرد شاهد. لم أكن أنا الذي أصيب بطلقة الموت. أو بتعبير آخر: لم تكن الإصابة في القلب. كان (أسايَ) أصغر من الجرح. كان أصغر من أن يصير شعراً.
القصيدةُ لا تحتمل الأسى الصغير، والفرح الصغير، والإحساس الصغير بالألم والقسوة والخوف والحنين ولسعةِ الجمال؛ لا تحتمل العواطف الصغيرة. القصيدة هي البنتُ الشرعية للعاطفة الكلية (وليعذرني أصدقائي (المتطهروّن) الذين، بوقارهم المألوف، ينظرون إلى العاطفة الإنسانية بصفتها مفسدة من مفاسد الفن!...).
العقلاء، وحدهم، هم الذين لا يستطيعون أن يكتبوا شعراً.
العقلاء محصنّون ضد أمراض الشعر. محصنون ضد الألم. محصنون ضد لسعة الجمال. محصنون ضد حاجةِ الإنسان لأن يكون له صلاةٌ ومعبد.
الآن، ما الذي يحصل للشعر؟!..
يحزنني القول إن كثيرين منا، شعراء ونقاداً ومنظّرين، يتحلقون حول جثمانه بغير ندم، منتظرين إعلان دفنه نهائياً (وبذريعة الحداثة أيضاً!..) ناسين أن الإنسان، أياً كان وحيثما كان، في حاجة إلى أيقونة ومعبد. أيقونةُ الإنسان ومعبده: الجمال. وحين تتقهقر قيمة الجمال تتقهقر قيم الإنسان كلها، ولن يخلد بعد ذلك غير القيمة الغاشمة للتطرف، وشهوةِ الإنسان الأزلية لأن يكون ميتاً أو صانع موت.
الحداثة - كما أفهمها بقلبي - أداة لتطوير العاطفة والارتقاء بصوت الضمير.
الحداثة الحقيقية (في الشعر أو في سواه) هي الاستمرار يوماً بعد يوم، وبدأب القديسين، في تأصيل قيم الجمال والإخلاص في عبادتها. هي حقّ الإنسان - شاعراً كان أو قاطع حجارة - في أن يحلم بمثال يؤمن به، أو معبد يحجّ إليه. هي أن نجعل عقل الوحش يتبع مشيئة قلب الإنسان. الحداثةُ: ضدُّ الموت.
وعبقرية الشعر ليست في اكتشافه للديناميت ونواة الذرة وأشعة ليزر العمياء. عبقرية الشعر في حلمه الدائم بإعادة اكتشاف النار الأولى: الشعر طفولةُ عقل الإنسان.
الآن مع استفحال (عقائد القوة)، يستفحل خوفنا على الشعر: يستفحل خوفنا على ضمير الحياة. الآن، علينا أن نتخلى عن أصوات أرواحنا كي نبدو مخلصين لعقيدة (الذكاء المطلق).. التي هي الوجه الآخر لعقيدة الإرهاب الكوني الذي يتفرّد بإدارة دفة الحياة على الأرض.
علينا - كي نبدو معاصرين ومتحضّرين - أن نتبع صوت الغرب (وهو الآن الغرب الأمريكي تحديداً).
علينا أن نتبع صوت (الإله الذكي) في كل شيء، وأولاً في ما يخص الثقافة، ثقافة كوكاكولا، الثقافةَ الخالية من الحنين، ثقافةَ: من الفم إلى المرحاض!.. علينا أن نتبع صوته في كل شيء، من الموسيقى إلى وجبات ماكدونالد السريعة، من اللباس إلى أسلوب الرقص والتقبيل والتعاطف وكتابة القصيدة. علينا أن نستبدل نظام الحياة بنظام حياة آخر. علينا - بذريعة العولمة وتحوُّل العالم إلى قرية كونية واحدة - الخضوع لاستلابٍ كوني جائر ومريع. علينا -في ما يتعلق بالفنون عامةً - أن نؤمن أن العقل الذي يعمل أجيراً لدى صانعي السلاح.. ينبغي أن يعمل حارساً على أهواء الروح: علينا أن نخون الفطرة.. ونكفّ عن الإنصات لصوت الضمير.
أقول (صوتُ الضمير).. وأعني صوت الشاعر. أعني حلم الإنسان في أن يتخلى عن هيئة الوحش.
الآن أخشى أن صوت الضمير يذوي.. والإنسان ينحدر مخذولاً إلى هاوية الوحش.. عاجزا حتى عن الإنصات إلى صيحة رجل مثل (اينشتين): (لقد أصاب البشر مسّ من الجنون. والعالم يسير نحو الكارثة) مستدركاً: (إن الحل يكمن في قلوب الناس). ومن حقنا أن نفترض أنّ لما يكمن في قلوب الناس إسماً متواضعاً هو: الشعر، وإسماً آخر كبيراً هو: الفن.
أخشى أن العالم لم يعد في حاجة إلى الشعر. إنه في حاجة إلى قنابل جديدة، وقاذفات جديدة، وبرامج موت جديدة: إنه في حاجة إلى ما يعينه على برمجة كابوسه وتسريع رحلته الحزينة إلى الموت.
أخشى أن تكون الحياة قد كفّت نهائياً عن تزويد الشعراء بنعمة الأحلام!.. الطغاةُ، مهندسو الجنون، صانعو السلاح (صانعوا الموت).. وحدهم الذين ما زالوا يتمتعون بهذه النعمة الرجيمة، وحدهم يقودون جنازة الحياة.
أخشى أن الشاعر بات من جملة الكائنات التي تنقرض: ينقرض الغزال والشاعر وحجل الجبال. ينقرض ضمير الجمال، وتتحول الحياة إلى هاويةِ لعنة.. ومسرحٍ مكرّس لإعادة إنتاج الكابوس.
أخشى على الأمل.
أنتقل إلينا، نحن هذا الجيل من شعراءِ مشرقِ الآلام:
إلى أي مدى كنا قادرين على صيانة الحلم؟.. وإلى أي مدى ساهمنا في إنتاج حصتنا من الكابوس؟!. كنا، أنا وسواي من شعراء جيلي، نتوهم أننا - في سعينا وراء الجمال - نسعى خلف السعادة، خلف أن نكون محبوبين وجميلين وعادلين: أن نكون بشراً.
وشيئاً فشيئاً، بعد أن عَلِقَتْ أصابعنا وقلوبنا في فخاخ الحبر، تكشّفَ لنا أيُّ كمينٍ جائر كنا نندفع بأقدامنا إليه ونرهن لديه مصائرنا وأعمارنا وقلوبنا المنفوخة بدخان الأوهام.
أربعون سنة ونحن نحلم بالعدالة والجمال والحرية، تماماً كما تحلم طيور صغيرة وساذجة أن يكون لها قرونٌ ودروعٌ وإراداتٌ نبيلة قادرة على استئصال البشاعة وضبط ميزان الحياة على الأرض.
أربعون سنة.. عمرُ الأمل!!..
لكن، ما الذي استطعنا _ نحن شعراء هذه القارة الحزينة _ أن نفعله بعد كل هذه السنوات؟. ما الذي حدث للأمل؟!..
شخصياً، كنتُ أومن أنني - بالكتابة - أقول ما أريد قوله لنفسي في غفلة عن عين الموت (الموت الذي لا يغفل)..
أحياناً أشعر أنني أتنفس عن طريق الحبر.. وأحياناً أختنق به.
كان الشعر صوت الرغبة، صوت الأمل، صوت الدعوة إلى الحياة. ثم تحول (مع انحدار الحياة، وتدهور قيم الجمال، وتقهقر أوهام الحرية والعدالة، وتفاقم الاستبداد السياسي والخلقي، وخيبة العقائد تحول إلى أداة لتوصيف الكابوس، بل وأكثر: إلى أداة لإعادة إنتاجه.
وهكذا وجدتني، أنا الشاعر، أتحول شيئاً فشيئاً إلى رجل يخاف من الكتابة والكلام والأحلام. كلما تقدمتُ خطوة في متاهة الكلام.. أزداد تلعثماً.
تحوّلتُ إلى كائن مخذول لا يؤمن بأي آلهة!..
ولا أتحدث عن نفسي فقط، بل عن جيل كامل من شعراء أخفقوا!. أو صمتوا.. أو أدركهم القنوط. كنا نتوهم أننا، بهذه الأداة النبيلة - الشعر -، قادرون على اصطياد الجمال والسعادة والحرية والحب: اصطياد الحياة. لكننا - بدل أن نكون كهنة أمل - لم نلبث أن تحولنا إلى مدمني تعاسة، ومؤرخين أبديين تحولنا إلى غربان تشهق في فضاء مقبرة.
تحولنا، داخل الأسرة الإنسانية التي كنا نتوهم أننا ننتمي إليها وننسج أفق حياتنا من أنوارها، إلى كائنات هامشية قانطة، تتضور داخل القفص.. وتحلم داخل القفص.. وتنتظر موتها داخل القفص.
وإذن، فهل ما زال بوسعنا - بعد كل هذا - أن نزعم أن الشعر صوت الأمل؟.
بل هو - في أحيان كثيرة - صدى شهقةِ اليأس.
بل هو - في أحيان كثيرة - صوت فزعِ الموت.
وإلا فليقل لي أحد منكم: أية قيمة للشعر، أيّ شعر، إن لم يكن صوت إيمان الإنسان، حتى ولو كان إيماناً بحجر أو معزاة أو شجرة أو حذاء امرأة!!..
شعرنا الآن - شعر الضفة الشرقية لِ (حوض الجنون والفضائح) - لم يعد أكثر من صدى لأصوات يائسين جرّدهم كهّانهم من الله.. جمالاً وحريةً وعدالةً وأملاً، وتركوهم يتسكعون على ضفاف خيباتهم مجردين من أي إيمان.. وبالتالي من أي أمل.
حين حاولنا أن ننتسب إلى عائلته المباركة، كان الشعر هِبةَ جمال. لكنه لم يلبث أن تحول إلى لعنة.
في شرقنا، شرق العبودية والتعاسة وتسلُّط قوى العماء، لم يعد بوسع الشعر - ولا سواه من الفنون - أن يكون أداة لاستنهاض الشهية الروحية للإنسان، بل فقط: أداة للصراخ الأعزل في وجه أبالسةٍ عُمْيٍ يغتصبون الحياة باسم كرامة الحياة.
هكذا، لم يعد أمامنا مهرب من الخوض في مستنقعات (السياسة) كمن يخوض في مستنقع موت: الجمالُ أعزل وضعيف؛ العدالة عاجزة والحياة مخرّبة؛ ونحن لا نزال نتساءل: ما حاجتنا إلى هذه الأطنان الحزينة من الأوراق والحبر والصلوات والمراثي.. إذا كان كل ما نفعله - داخل هذا الجحيم - ليس أكثر من مِروحةٍ في تابوت.. لا تحرّك غير الهواء الفاسد!!..
ثمة من يقول : إن الحرية نقيض اليأس (لعلّه سارتر)
أما نحن فما الذي يمكننا أن نفعله في غياب الحرية؟!..
لقد تحولنا، نحن الشعراء، إلى قطيع من اليائسين والشهود العُزّل على خراب الحياة.
تحولنا جميعاً.. من كهنةِ أمل إلى مؤرخي ظلام ويأس وموت.
.. .. .. ..
في حكايةٍ بليغة، موجعة وأخاذة، يتحدث (بورخيس) عن حيوان غريب يدعى السكوونك "Squonk" .. حيوان خجول، عاطفي، حزين وانطوائي، ولأنه خجول وحزين فهو يمضي حياته كلها مختبئاً تحت أغصان الأشجار، لا يفعل شيئاً غير أن يبكي ويبكي. وهكذا يتمكن الصيادون من تَعَقُّب آثار دموعه العَطِرة تحت قمر الليل. وعندما يحاصرونه وتغدو نجاته مستحيلة.. يواصل البكاء حتى يذوّب نفسه إلى دموع.
لعلنا - نحن شعراء هذِه القارة التعيسة - "Squonk" العائلة الإنسانية.