كلمة الاقتصادية
تعتبر الميزانية العامة للدولة تشريعا بالصرف، هذه ميزتها وهذا عيبها.
فبمجرد الموافقة عليها من قبل مجلس الوزراء وصدور القرارات التنفيذية لها،
يصبح الصرف مشروعا طالما توافرت مسوغاته. كانت الميزانية ولم تزل أداة
رقابة ومنهج تخطيط، وخلال عقود طويلة من التطور تأرجحت أهمية الميزانية بين
هذين العنصرين، وذلك بقدر ما تطور التخطيط وتطورت الرقابة. في المملكة تتم
عملية التخطيط للميزانية بدءا من خطاب وزارة المالية للجهات الحكومية،
الذي يحدد أهداف الميزانية وطريقة إعدادها، وبرغم مرور السنوات وتطور
الاقتصاد السعودي فإن آلية إعداد الميزانية لم تتغير؛ فالجهات الحكومية
تحتسب الميزانية على أساس أربعة أبواب، الباب الأول للرواتب والأجور،
والباب الثاني النفقات العامة، والباب الثالث التشغيل والصيانة، والباب
الرابع للمشاريع الجديدة. وإذا كانت مصروفات الرواتب محسومة مقدما من خلال
المسيرات، فإن مصروفات الأبواب الباقية موضوع جدل واسع. وبعيدا عن
التعقيدات الإدارية والإجرائية في هذا الشأن، فإن مصروفات الباب الثاني على
وجه الخصوص تقرر وفقا لمتوسط الصرف في السنوات السابقة، مع تعديل بالتخفيض
أو السماح بالزيادة وفقا لما تقرره وزارة المالية، وهنا مكمن الخلل.
فالمصروفات ستعتمد لأي جهة ليس بناء على احتياجات فعلية مدروسة، بل مجرد
متوسط الصرف خلال السنوات السابقة، وهذا معناه أن تجتهد الجهة في صرف ما تم
اعتماده لها، طالما لا يوجد عائق نظامي أمام ذلك، لأنها لو لم تقم بذلك
فإن مصروفاتها المعتمدة للسنوات المقبلة ستتأثر. وهكذا أصبح الصرف من هذه
البنود فرض عين على الجهات الحكومية، يجب أن تقوم به قبل نهاية العام
المالي.
من السهل صرف بنود المكافآت، بل هذه البنود من أكثر البنود عرضة للعجز
في ميزانية الجهات الحكومية، تبقى البنود الأخرى التي ترتبط بالأثاث
والأجهزة والسفريات والمستلزمات. هذه البنود تصرف على المشتريات من
الموردين خلال عام، ولأن هذه البنود تم إقرارها بناء على متوسط الصرف خلال
العام الماضي، وليس بناء على تحديد فعلي للاحتياجات، أو بناء على برامج
فعلية وخطط تنفيذية، فإن معظم الجهات الحكومية قد تغفل عن هذه البنود حتى
قرب نهاية العام المالي، وإذا لم تستطع المناقلة بين هذه البنود فإنها تضطر
إلى صرفها قبل إقفال الحسابات، حتى يتسنى لها طلب دعم لهذه البنود في
السنوات المقبلة. ولهذا تبدأ عملية شراء محمومة استنادا إلى قيمة كل بند
والمبلغ المتوافر فيه، بصرف النظر عن الاحتياج الفعلي للمؤسسة، ومعظم
عمليات الشراء هذه تتم بالتعميد المباشر بعيدا حتى عن طرق المناقصة أو
العروض، وهكذا تمتلئ المستودعات بكثير من المشتريات غير المطلوبة فعلا من
إدارات الجهة، وإذا صاحب ذلك فوضى في المخازن والمستودعات، فإنه لا أحد على
وجه الدقة يعرف ما تحتويه تلك المخازن والصناديق المرصوصة. ويحدث أن تطلب
إحدى الإدارات أو بعض الموظفين شيئا منها، وبما أنه لا أحد يعلم بوجودها في
المخازن، يتم توفير طلبات هذه الجهات بالشراء المباشر مرة أخرى. لقد تحول
الغرض من عدد كبير من بنود الباب الثاني إلى مجرد أرقام تتم تعليتها كل عام
على المصروفات، دون نظر حقيقي في أسبابها والحاجة إليها، ويتحول الشراء كل
عام إلى عادة سيئة لدى الجهات الحكومية.
من الواضح أن الأساليب القديمة التي يقوم عليها إعداد الميزانية واعتماد
المصروفات، هي التي أدت إلى هذا الهدر، وأدت أيضا إلى اللامبالاة في
الصرف، وتجاوز روح النظام برغم التقيد به شكلا. وسيستمر الحال على ما هو
عليه ما لم يتم تطوير الميزانية العامة للدولة وطرق إعدادها وربط المشتريات
الحكومية ببرامج، بحيث يمكن شراء احتياجات وزارات متعددة من موضوع واحد
طالما هي جميعا تشترك في تنفيذ برنامجه، وسيتوقف الشراء على هذه الموضوعات
بمجرد توقف البرنامج أو تأجيل العمل عليه.