+
----
-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يعيش الإنسانُ في هذه الدنيا ويتعرَّض فيها لشيء من الهموم والغموم والنكد والطفش وضيق الصدر ومشاكل الأهل والأولاد والعمل وغير ذلك ، وإذا لم يجد الإنسان ما ينفِّس به عن نفسه من هذه الويلات وإلا سيصيبه ما يشتكي منه كثير من الناس هذه الأيام من الأزمات والأمراض النفسية التي من أسبابها مشاكل وهموم الحياة .
1- القرآن نَفَس
يقول الله تعالى في سورة يونس ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ ... ) ويقول في سورة الإسراء ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ... ) ويقول في سورة فصّلت ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء ... ) ثلاث آيات تنص بوضوح على أن القرآن شفاء ، عافية ، دواء ، نَفَس ينفِّس به الإنسان عن نفسه هموم الدنيا ومشاكلها .
ويؤخذ من هذا أن المسلم لا بد أن تكون له علاقة وطيدة بالقرآن الكريم .
والميزان الذي يستطيعه عامّة الناس : هو ما ورد في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : زَوَّجَنِي أَبِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيَّ أَحْسِبُهُ ، قَالَ : لاَ أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا أَوْ لاَ أَعْبَأُ بِهَا مِمَّا لِي مِنَ الْعِبَادَةِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلاةِ ، فَدَخَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهَا : كَيْفَ وَجَدْتِ بَعْلَكِ ؟ قَالَتْ وَكَخَيْرِ الْبُعُولَةِ من رجل ، لم يكشف لنا كنفا ، ولم يقرب لنا فراشا ، فأقبل علي فعضني بلسانه : كَخَيْرِ الرِّجَالِ وَقَالَ : أَنْكَحْتُكَ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَكَانِي إِلَيْهِ ، قَالَ : فَأَرْسَلَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي : أَتَصُومُ النَّهَارَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : وَتَقُومُ اللَّيْلَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ ، ثُمَّ قَالَ لِي : اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ ، قَالَ : قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : فَاقْرَأْهُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ ، قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : أَحَدُهُمَا إِمَّا حُصَيْنٌ وَإِمَّا مُغِيرَةُ ، قَالَ : فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ ثَلاث...
والحديث صحيح وله طرق وروايات متعددة وقد أخرجه البخاري وأبو داوود والنسائي وهو في مسند الإمام أحمد وغيره
وبالجملة فالرسول صلى الله عليه وسلم تدرَّج مع الشاب عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما من قراءة القرآن كاملاً في شهر إلى عشرين يوماً إلى خمسة عشر إلى عشرة إلى خمسة إلى ثلاثة أيام ونهاه عن الزيادة عن ذلك .
فيؤخذ من الحديث أن الميزان الذي يستطيعه الناس بعامة هو الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في أول الحديث وهو أن يقرأ القرآن في شهر .
ومن قرأ القرآن في شهر ورتَّب نفسه ترتيباً سهلاً ميسّراً عليه : كان حزبه اليومي جزءاً كاملاً من القرآن ، فالشهر ثلاثون يوماً والقرآن ثلاثون جزءاً ، بمعدل جزء واحد يومياً .
ولو وفِّق الإنسان وجعل ترتيب الأجزاء مع التواريخ الهجرية بداية ونهاية لكان أثبت وأدوم له ، يبدأ في الأجزاء مع بداية الشهر ويختم مع نهاية الشهر ، فلو كان اليوم في التاريخ الهجري هو اليوم الثالث فإنه يقرأ الجزء الثالث ، ولو كان اليوم في التاريخ الهجري هو اليوم السابع فإنه يقرأ الجزء السابع ، ولو كان اليوم في التاريخ الهجري هو الثامن عشر فإنه يقرأ الجزء الثامن عشر ... وهكذا
ولربما قال البعض من الناس : حتى الجزء من القرآن لا أستطيع إكماله ، فنقول له : اقرأ ولو أقلّ القليل ، حتى ولو صفحة واحدة في دقيقة واحدة ، لأن الجزء من القرآن عشرون صفحة ، والصفحة تقرأ في دقيقة واحدة ، وبالتالي فالجزء من القرآن كاملاً يقرأ في عشرين دقيقة ، فمن هو الذي يبخل على نفسه بدقيقة واحدة في يومه وليلته من مجموع أربع وعشرين ساعة ، يقرأ فيها القرآن بتدبّر وتمعّن ووقوف مع معاني كلام الله فيجد راحة ونَفَسَاً يتنفّس به من هموم هذه الدنيا ؟!
2- الصلاة نَفَس
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( حُبِّبَ إِلَىَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِىَ فِى الصَّلاَةِ ) صحيح الجامع برقم 3124 ويقول : (يَا بِلاَلُ أَقِمِ الصَّلاَةَ أَرِحْنَا بِهَا ) صحيح الجامع برقم 7892 و( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلّى ) صحيح الجامع برقم 4703
هذه الأحاديث توضِّح بجلاء أن الصلاة راحة ، وأنها تنفيس ، وأنها ملاذ آمن يلتجئ إليه المؤمن فيشعر حينئذ بالإستقرار والراحة النفسية .
لكنْ : ليست كل صلاة يجد معها المصلِّي الراحة المنشودة ، بل هي الصلاة الخاشعة ، التي يخشع فيها المصلّي ، فتخشع جوارحه عن الحركة ، ويخشع قلبه حين مناجاة ربه ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُون ) ، فإذا قام للصلاة وقرأ الفاتحة تدبّر آياتها العظيمة ، فإذا قرأ ( الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) تذكّر أنّه يناجي ربه ، وأنّ الله يقول : حمدني عبدي ، فإذا قرأ ( الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ ) تذكَّر أنَّ الله يقول : أثنى عليّ عبدي ، فإذا قرأ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) تذكَّر أنَّ الله يقول : مجّدني عبدي ، فإذا قرأ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) تذكَّر أنَّ الله يقول : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قرأ ( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) تذكَّر أنَّ الله يقول : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل 0 والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه .
ثم إذا ركع اطمأن راكعاً وقال : سبحان ربي العظيم وأثنى على الله بما هو أهله ، ثم إذا رفع رأسه من الركوع اعتدل واقفاً حتى يطمئن في وقوفه وقال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ... ثم إذا سجد قال : سبحان ربي الأعلى واطمأن في سجوده ودعا ربَّه وشكى إليه حاجته وبثّ إليه مسألته وشكى إليه همومه وأحزانه ، وعرف أنّه يدعو رباً يملك كلّ شيء ، وبيده مفاتيح كلّ شيء ، وأنه رب رؤوف رحيم ، يحب من عبده أن يسأله ويلحّ عليه في المسألة وقد وعد بالإجابة وقال ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ثم إذا جلس بين السجدتين اعتدل في جلوسه واطمأن جالسا ، وهكذا يفعل ذلك في صلاته كلّها .
هذه هي الصلاة العلاج ، الصلاة الدواء ، الصلاة المنفّسة للهموم والغموم والأحزان والمشاكل
أما الصلاة على عجالة ، وبدون خشوع وخضوع وإنابة وذكر ودعاء ، والصلاة دون اطمئنان وسكينة ، فلن يجد معها المصلّي راحته ، وأنسه ، وعافيته ، وشفاه ، بل قد تكون باطلة كما في حديث المسيء صلاته كما في الصحيحين وقد أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة ثلاث مرات وفيها كلّها يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ارجع فصل فإنك لم تصلّ ) ، ثم علمه كيف يصلِّي وقال له : إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم اسجد حتى نطمئن ساجدًا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا .
فالرجل صلّى لكنَّ الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلم أوضح له بأن صلاته باطلة ليست صحيحة ، ثم علّمه الصلاة الصحيحة التي مدارها في الحديث على الخشوع والطمأنينة .
وكم من الناس من قد بلغ الثلاثين والأربعين وجاوز الخمسين وهو لم يجد طعماً للصلاة ولو يوماً من الأيام ولو لصلاة واحدة ، فهذا إنسان محروم من عافية الصلاة ، من حلاوة الصلاة ، من شفاء الصلاة ، والسبب أن صلاته بدون خشوع وخضوع لله رب العالمين .
3 - الإستغفار نَفَس
يقول الله تعالى (اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً ... )
يقول الإمام القرطبي في تفسيره 4 / 9 : هذه ثمرة الإستغفار والتوبة أي يمتعكم بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم .
ويقول الإمام جمال الدين القاسمي في تفسيره 93 / 9 أي : يطوِّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، من عيشة واسعة ، ونعم متتابعة ، إلى وقت وفاتكم كقوله (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن العبد إذا أخطأ خطيئة ، نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه ، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه ، وهو الران الذي ذكر الله تعالى ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون ) صحيح الجامع برقم 1670
وفي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي بردة المزني رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة )
ومعنى ليغان على قلبي : أي ما يرد على قلب النبي صلى الله عليه وسلم من ضيق الصدر بما كان يصيبه من الهمّ بأمر أمته ، لا أنه كان يغان على قلبه من ذنب يذنبه .
وقيل ليغان : بمعنى ما يتغشى القلب من الغفلة عن الذكر ، فإذا فتر عنه أو غفل : عدَّ ذلك ذنباً واستغفر منه .
وروي في الحديث كما في سنن أبي داوود ( من لزم الإستغفار : جهل الله له من كل ضيق مخرجا ، ومن كل همّ فرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب )
وفي صحيح الإمام مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى ( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم )
هذه نصوص وغيرها كثير تبيِّن أن الإستغفار جلاء للقلوب ، وأنّه عافية ، وأنه حياة طيبة ، وذلك لأن الخطيئة هي بقعة سوداء في القلب ، تؤثر فيه تأثيراً سلبياً فتسبب له الضيق والحرج والقسوة ، فمع دوام الإستغفار تصقل هذه الخطايا وتمحى فيستمر صفاء القلب ونقاؤه وحيويته وراحته التي خلقه الله عليها ، وهكذا يمتد أثر الإستغفار إلى الهموم والأحزان فيبدّدها ويشتّتها ويفرّقها ، فيطردها من القلب ، فيشعر القلب بأنسه بالله وقربه من الله ، فيجد السكن والراحة والطمأنينة ، والسبب في ذلك أن المستغفر يعترف بفقره وذلّته وحاجته إلى رحمة مولاه وإلى إحسانه إليه ، فإذا علم الله ذلك من العبد وعلم انكساره بين يديه قابله بالمغفرة والرحمة والرضوان والإنس به والراحة في السكون إليه ، وهكذا المستغفر يشعر بلسعة المعصية وحرارتها ووحشتها وأنها قد جلبت له الهمّ والغمّ والنكد والطفش فإلى أين الملجأ والملتجأ إلا إلى الله الذي كل السعادة والهناء والراحة والنعيم عنده تبارك وتعالى