يَـوْمُ عَاشُــورَاء :
فَضْلُهُ، حِكْمَتُهُ، أَحْكَامُهُ، بِدَعُهُ
من منشورات مركز الإمام الألباني - رحمه الله تعالى - : رقم (26) محرَّم (1428) هـ .
الحَمْدُ
لِلَّه، وَالصَّلاةُ وَالسَّلام عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالاه، وَاتَّبَعَ هُدَاه. أَمَّا بَعْد:
إن اليوم العاشر من شهر الله محرم - من كل سنة هجرية قمرية - هو اليوم المسمى عاشوراء .. وله في الشرع الحكيم منزلة علية ومكانة سنية .
1_
فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامانِ الجَلِيلاَنِ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي «
صَحِيحَيْهِمَا » عَن عائِشَةَ _رَضِيَ اللَّه عَنْهَا_، قَالَت: كَانَ يَوْمُ عاشُورَاءَ تَصومُهُ
قُرَيْشٌ فِي الجاهِلِيَّة، وَكَانَ رَسُولُ اللَّه –صلى الله عليه وسلم-
يَصومُهُ فِي الجاهِلِيَّة؛ فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صامَه، وَأَمَرَ
بِصِيامِهِ. فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُوراء؛ فَمَنْ شاءَ صامَه، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَه.
وَفِي « الصَّحِيحَيْنِ »
_أيضاً_ عَن ابنِ عَبَّاس _رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا_، قَالَ: قَدِمَ
النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- المَدِينَة،َ فَرأى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُوراء،
فَقَال: « مَا هَذا؟! »، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمُ
نَجَّى اللَّهُ بَنِي اسْرائِيلَ مِن عَدُوِّهِم، فَصامَهُ مُوسَى. قَالَ: «
فَأَنا أحَقّ بِمُوسَى مِنْكُم، فَصامَهُ وَأَمَرَ بِصِيامِهِ ».
وَفِي « الصَّحِيحَيْن » _أَيضاً_ عَن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ _رَضِيَ اللَّه عَنْهُ_، قَال: كَانَ يَوْمُ عاشُوراءَ تَعُدُّهُ اليَهُودُ عِيداً، قَالَ النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-: « فَصُوموهُ أَنْتُم ».
وَفِي « صَحِيح مُسْلِم » عَنِ ابْنِ عَبَّاس _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا_، قَال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عَاشُوراء، وَأَمَرَ
بِصِيامِهِ (1)، قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّه! إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ
اليَهُودُ وَالنَّصارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «
فَإِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللَّه- صُمْنَا اليَوْمَ
التَّاسِعَ ».
قَال: فَلَمْ يَأتِ العَامُ المُقْبِلُ حَتَّى تُوفِّيَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
وَفِي لَفْظٍ فِي « صَحِيحِ مُسْلِمٍ » -أَيْضاً-: « لَئِنْ بَقِيتُ إِلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِع ».
وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ
(10817) زِيَادَةٌ: «...مَخَافَةَ أَنْ يَفُوتَنِي يَوْمُ عَاشُورَاءَ» [«
السِّلْسِلَة الصَّحِيحة » (350)].
وَقَدْ رَوَى البَيْهَقِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَال: « صُومُوا يَوْمَ عَاشُوراء، وَخَالِفُوا اليَهُود؛ صُومُوا قَبْلَهُ يَوْماً، أَوْ بَعْدَهُ يَوْماً ».
وَفِي « الصَّحِيحَيْنِ »
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-
يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ هَذَا
اليَوْمَ _ يَوْمَ عَاشُورَاءَ _، وَهَذَا الشَّهْرَ _يَعْنِي: شَهْرَ رَمَضَانَ_.
وَفِي « صَحِيحِ مُسْلِمٍ »
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ ».
2_ وَقَالَ الحافِظُ ابنُ حَجَر العَسْقَلانِي -رَحِمَهُ اللَّه- فِي «فَتْح البَارِي» : (4/346):
« صِيَامُ عَاشُورَاء عَلَى ثَلاثِ مَراتِبَ :
أَدْنَاهَا: أَنْ يُصامَ _وَحْدَهُ_.
وَفَوْقَهُ: أَنْ يُصامَ التَّاسِعُ مَعَهُ.
وَفَوْقَهُ: أَنْ يُصامَ التَّاسِعُ وَالحَادِي عَشَرَ ».
3_ قَالَ العَلاَّمَةُ شَاه وَلِيُّ اللَّهِ الدِّهْلَوِيُّ فِي « حُجَّة اللَّهِ البَالِغَة » (2/532):
« سِرُّ مَشْرُوعِيَّةِ صِيَامِ عَاشُورَاءَ:
أَنَّهُ وَقْتٌ نَصَرَ اللَّهُ _تَعَالَى_ فِيهِ مُوسَى _عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ_ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. فَشَكَرَ مُوسَى
بِصَوْمِ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَصَارَ سُنَّةً بَيْنَ أَهْلِ الكِتَابِ
وَالعَرَبِ، وَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ».
فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ
–صلى الله عليه وسلم- فِيهِ-: « أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ »: « أَيْ
: أَثْبَتُ، وَأَقْرَبُ لِمُتَابَعَةِ مُوسَى مِنْكُمْ؛ فَإِنَّا
مُوَافِقُونَ لَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَمُصَدِّقُونَ لِكِتَابِهِ،
وَأَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمَا فِي التَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ » -كَمَا
قَالَ العَظِيمُ آبَادِي فِي « عَوْنِ المَعْبُودِ » (7/109)-.
4_ هَلْ يَصِحُّ إِظْهَارُ السُّرور _يَوْمَ عَاشُوراءَ_، وَالاكتِحَالُ، وَتَوْزِيعُ الحَلْوى -وَنَحْوُه-؟ .
وَرَدَ
فِي «مَجْمُوع الفَتَاوى» (25/299) - مَا مُلَخَّصُهُ -: « سُئِلَ شَيْخ
الإِسْلاَم عَمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي يَوْمِ عَاشُوراء : مِنَ
الكُحْلِ، وَالاغتِسَال، وَالحِنَّاء، وَالمُصافَحَة، وَطَبْخِ الحُبوب،
وَإِظْهَار السُّرور _وَغَيْرِ ذَلِك_؛ فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنِ
النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثٌ صَحِيحٌ؟ أَمْ لا ؟.
وَإِذا وَرَدَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةً؟ أَمْ لا ؟ .
وَمَا
تَفْعَلُهُ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى مِنَ المأْتَمِ، وَالحُزْن، وَالعَطَش
_وَغَيْرِ ذَلِكَ_ مِنَ النَّدْبِ وَالنِّياحَة، وَشَقّ الجُيُوب؛ هَلْ
لِذَلِكَ أَصْل؟ أَم لا؟.
فَأَجاب: الحَمْدُ لِلَّه رَبّ العالَمِين.
لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِن
ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- وَلا عَنْ
أَصْحَابِه، وَلا استَحَبَّ ذَلِكَ(2) أَحَدٌ مِن أَئِمَّةِ المُسْلِمين،
لا الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ، وَلا غَيْرُهُم، وَلا رَوَى أَهْلُ الكُتُبِ
المُعْتَمَدِةِ فِي ذَلِكَ شَيْئاً، لا عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه
وسلم-، وَلا الصَّحابَةِ، وَلا التَّابِعِين، لا صَحِيحاً وَلا ضَعِيفاً،
لا فِي كُتُبِ الصَّحِيح، وَلا فِي السُّنَن، وَلا المَسانِيد، وَلا
يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَحادِيث عَلَى عَهْدِ القُرُونِ
الفَاضِلَة.
وَرَوَوا -فِي حَدِيثٍ مَوْضُوع مَكْذُوب عَن النَّبِيّ –صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ: «مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُوراء؛ وَسَّعَ اللَّه عَلَيْه سَائِرَ السَّنَة » (3).
نَقُولُ: وَمَا
وَرَدَ فِي السُّؤَالِ _ حَوْلَ المَأْتَمِ وَالحُزْنِ _ أَشَارَ إِلَى
بَعْضٍ مِنْهُ _ مِمَّا لاَ يَزَالُ جَارِياً إِلَى اليَوْمِ! الإِمَامُ
الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ» (8/204) -حَيْثُ
قَالَ-:
« وَقَدْ أَسْرَفَ
الرَّافِضَةُ فِي دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْه (4) فِي حُدُودِ الأَرْبَعِ
مِئَةٍ وَمَا حَوْلَهَا، فَكَانَتِ الدَّبَادِبُ [الطُّبُولُ] تُضْرَبُ
بِبَغْدَادَ وَنَحْوِهَا مِنَ البِلاَدِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ،
وَيُذَرُّ الرَّمَادُ وَالتِّبْنُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالأَسْوَاقِ،
وَتُعَلَّقُ المُسُوحُ عَلَى الدَّكَاكِينِ، وَيُظْهِرُ النَّاسُ الحُزْنَ
وَالبَكَاءَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لاَ يَشْرَبُ المَاءَ لِيَلْتَئِذَ
مُوَافَقَةً لِلْحُسَيْنِ (5)؛ لأَنَّهُ قُتِلَ عَطْشَانُ !. ثُمَّ
تَخْرُجُ النِّسَاءُ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ يَنُحْنَ وَيَلْطُمْنَ
وُجُوهَهُنَّ وَصُدُورَهُنَّ حَافِيَاتٍ فِي الأَسْوَاقِ... إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ البِدَعِ الشَّنِيعَةِ، وَالأَهْوَاءِ الفَظِيعَةِ،
وَالهَتَائِكِ المُخْتَرَعَةِ....».
وَقَالَ العَلاَّمَةُ
الشَّيْخُ عَلِي القَارِي فِي « الأَسْرَارِ المَرْفُوعَة فِي الأَحَادِيثِ
المَوْضُوعَة» (ص 475): « وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ الرَّافِضَةِ فِي
بِلاَدِ العَجَمِ -مِنْ خُرَاسَانَ وَالعِرَاقِ، بَلْ فِي بَلاَدِ مَا
وَرَاءِ النَّهْرِ- مُنْكَرَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنْ لُبْسِ السَّوَادِ
وَالدَّوَرَانِ فِي البِلاَدِ، وَجَرْحِ رُؤُوسِهِمْ وَأَبْدَانِهمْ
بِأَنْوَاعٍ مِنَ الجِرَاحَةِ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُحِبُّو أَهْلِ
البَيْتِ! وَهُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُمْ».
5_ وَمِمَّا
يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي هَذا المَقَام : أَنَّ اليَوْمَ الفَاضِلَ
صَوْمُهُ إِذَا وافَقَ يَوْمَ نَهْيٍ؛ فَالأَصْلُ إِعْمالُ النَّهْيِ:
كَمَا لَوْ صَادَفَ يَوْمُ عِيدِ فِطْرٍ، أَو عِيدِ أَضْحَى: يَوْمَ
اثنَيْنِ، أَوْ خَمِيسٍ -وَهُما يَوْمَانِ فاضِلان-: فَلا يُصامُ هَذا
اليَوْمُ -مَع فَضْلِهِ-؛ لِوُرودِ النَّهْيِ عَن صِيامِ يَوْم العِيد (6)؛
فَالحَاظِرُ مُقَدَّمٌ عَلَى المُبِيح.
وَمِثْلُ ذَلِكَ –تَماماً-
الحَدِيثُ الصَّحِيحُ الوَارِدُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي
النَّهْيِ عَنْ صِيامِ يَوْمِ السَّبْتِ؛ وَهُوَ قَولُهُ -عَلَيْهِ
الصَّلاةُ وَالسَّلام-: «لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْت؛ إلاَّ فِيمَا
افْتُرِضَ عَلَيْكُم، وَلَو أَن يَجِدَ أحَدُكُم إِلاَّ عُودَ شَجَرٍ، أَوْ
لِحاءَ عِنَبٍ: فَلْيَمْضَغْهُ» [«إرْوَاء الغَلِيل» (960) ].
وَلا
يُقالُ –ألبَتَّةَ- فِي هَذا النَّهْيِ -مَا قَالَهُ أهْلُ العِلْمِ فِي
حُكْمِ النَّهْيِ عَن صِيامِ يَوم الجُمْعَة؛ فَقَدْ وَرَدَت صِفَةُ
النَّهْيِ عَنِ الجُمْعَة -فِي بَعْضِ الأَحَادِيثِ- مُقَيَّدَةً
باستِثنَاءٍ صَرِيحٍ واضِحٍ؛ كَقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: « .. إِلاَّ
أَنْ يُوافِقَ صَوْماً يَصُومُهُ أَحَدُكُم» [رَوَاهُ مُسْلِم].
وَهُوَ مَا لا يُوجَدُ –أَلبَتَّةَ- فِي النَّهْيِ الوارِدِ عَن عُمُومِ صِيامِ يَوْم السَّبْت -إِلاَّ فِي فَرِيضَة-.
6_ وَهَا هُنا تَنْبِيهان:
الأَوَّل: أَنَّ
المُسْلِمَ الحَرِيصَ عَلَى صِيامِ مِثْلِ هَذِهِ الأَيَّامِ الفاضِلَةِ
إِذَا كَانَ امتِناعُهُ عَنْ صَوْمِهَا راجِعاً إِلى سَبَبٍ شَرْعِيٍّ
-كَمِثْلِ هَذا النَّهْيِ الوارِدِ عَن صِيامِ السَّبْتِ-، وَلَيْسَ عَن
تَكاسُلٍ، أَو تَهاوُنٍ:
فَإِنَّ أَجْرَهُ فِي
عَدَمِ صَوْمِهِ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ -بِإِذْنِ المَوْلى -سُبْحَانَه- مِن
صَوْمِهِ -مَعَ عِلْمِهِ بِالنَّهْيِ-!
وَدَلِيلُ ذَلِكَ: قَوْلُ
النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «مَن تَرَكَ شَيْئاً لِلَّهِ عَوَّضَهُ
اللَّهُ خَيْراً مِنه» [رَوَاهُ أَحْمَد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ]، وَقَوْلُهُ
-صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات، وَإِنَّما
لِكُلِّ امْرئٍ مَا نَوى...» [رَوَاهُ الشَّيْخَانِ] .
التَّنْبِيه الثَّانِي: يَنْبَغِي
أَنْ لا تَكُونَ هَذِهِ المَسْأَلَةُ (العِلْمِيَّةُ) سَبَباً
للتَّخاصُمِ وَالتَّدابُرِ بَيْن المُسْلِمين -كَما (قَدْ) يَقَعُ مِن
بَعْضِ الغَوْغاء-؛ فَهِيَ فِي صِيامِ نَفْلٍ -أَوَّلاً-، وَفِي
مَسْأَلَةٍ نُقِلَ فِيهَا خِلافٌ فِقْهِيٌّ مُعْتَبَرٌ -ثَانِياً-.
فَلْيَكُنِ البَحْثُ -إِنْ
كَان- عِلْمِيًّا، أَخَوِيًّا، رَحِيماً، وَدُوداً؛ المُبْتَغَى فِيهِ
وَجْهُ اللَّه، وَالمُرادُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الحَقِّ.
فَلا يَكُن الواحِدُ مِنَّا -فِي ذَلِكَ- كَمَا قِيل: (أَرادَ أَنْ يُطِبَّ زُكاماً؛ فيُحْدِثَ جُذاماً):
فَهَلْ مِن أَجْلِ إِقامَةِ
سُنَّةٍ -وَهِيَ عَمَلٌ فَاضِلٌ مُسْتَحَبٌّ- نُوقِعُ الأُمَّةَ فِي
فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ (7) -وَهُوَ فِعْلٌ شَنِيعٌ مُحَرَّمٌ-؟! .
نَسْأَلُ
اللَّهَ –تَعَالَى- أَنْ يَتَقَبَّلَ صَلاَتَنَا، وَصِيَامَنَا، وَأَنْ
يَرْزُقَنَا –سُبْحَانَهُ- العِلْمَ النَّافِعَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ.
... وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين (.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
وَقَدْ وَرَدَ فِي « صَحِيحِ مُسْلِمٍ » عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ
مُعَوِّذٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا
يُصَوِّمُونَ صِبْيَانَهُمْ الصِّغَارَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَهَذَا مِنْ
بَابِ (تَدْرِيبِ الصِّبْيَانِ عَلَى العِبَادَاتِ وَفِعْلِ الخَيْرِ) -
كَمَا فِي « فَتْحِ البَارِي » (4/201)-.
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ فِينَا ******** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ .
(2) لاَ
شَكَّ أَنَّ التَّوْسِعَةَ خَيْرٌ مِنَ التَّضْيِيقِ؛ وَلَكِنَّ هَذَا
عَلَى وَجْهِ العُمُومِ، دُونَ تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِيَوْمٍ مُعَيَّنٍ دُونَ
آخَرَ؛ فَهُوَ -هَكَذَا- بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ.
وَلَوْ
كَانَ خَيْراً : لَسَبَقَنَا الصَّحَابَةُ الكِرَامُ إِلَيْهِ -وَهُمُ
الأَعْلَمُ، وَالأَتْقَى، وَالأَحْرَصُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-.
(3) انْظُر
«المَوضُوعَات» (2/203) لابْنِ الجَوْزِيِّ، وَ«المَنَارِ المُنِيف فِي
الصَّحِيحِ وَالضَّعِيف» (ص111- 112) لابْنِ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّه-.
(4) ولا يزالُ إسرافُ الروافضِ الشيعة مُستمرًّا إلى هذه الأيام –بعد ألف سنة-؛ بمزيدٍ مِن العُنفِ والغلُوِّ والضلال...
(5) فَقَدْ قُتِلَ -رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ- فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ (سَنَةَ 61هـ).
تُنْظَرْ تَفَاصِيلُ ذَلِكَ فِي «تَارِيخِ الإِسْلاَمِ» (2/571 - 584 - طَبع دَار الغَرْب) لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ.
وَالعَجَبُ
أَنَّ الرَّوَافِضَ لَمَّا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ مَقْتَلِ
الحُسَيْنِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لاَ يَفْعَلُونَ مِثْلَهُ -وَلاَ
عُشْرَهُ!- فِي يَوْمِ مَقْتَلِ أَبِيهِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-
وَهُوَ خَيْرٌ مِنْهُ -عِنْدَ الجَمِيعِ-.
فَقَدْ قُتِلَ -رَحِمَهُ
اللَّهُ- يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى صَلاَةِ الفَجْرِ، فِي
السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ (40هـ)!.
فَهَذَا تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ مِنْ تَنَاقُضَاتِهِمُ الكَثِيرَةِ، الَّتِي لَمْ تُبْنَ عَلَى عَقْلٍ وَلاَ نَقْلٍ !! .
(6) انْظُر تَعْلِيقَ شَيْخِنَا الإِمَامِ الأَلْبَانِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى كِتَابِهِ «صَحِيحِ مَوَارِدِ الظَّمْآنِ» (1/403).
(7) وَمِنْ
صُوَرِ ذَلِكَ -بَلْ أَشَدُّ- مَا ذَكَرَهُ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ فِي «
تَارِيخِ الإِسْلاَمِ » (11/20) - مِمَّا وَقَعَ فِي (يَوْمِ عَاشُورَاءَ)، مِنْ أَحْدَاثِ سَنَةِ 510هـ - قَالَ :
« وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ
كَانَتْ فِتْنَةٌ فِي مَشْهَدِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا - بِـطُوس-؛
خَاصَمَ عَلَوِيٌّ فَقِيهاً، وَتَشَاتَمَا، وَجُرِحَا، فَاسْتَعَانَ
كُلٌّ مِنْهُمَا بِحِزْبِهِ، فَثَارَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ هَائِلَةٌُ،
حَضَرَهَا جَمِيعُ أَهْلِ البَلَدِ، وَأَحَاطُوا بِالمَشْهَدِ
وَخَرَّبُوهُ، وَقُتِلُوا جَمَاعَةً، وَوَقَعَ النَّهْبُ، وَجَرَى مَا لاَ
يُوصَفُ، وَلَمْ يُعَمَّرِ المَشْهَدُ إِلَى سَنَةِ خَمْسِ عَشْرَةَ
وَخَمْسِ مِئَةٍ ! ».
( وَأَجْمَعُ كِتَابٍ رَأيْنَاهُ -فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ المُهِمَّةِ- كِتَابُ « صِيَامِ عَاشُورَاء، وَمَا
يَرْتَبِطُ بِهَذَا اليَوْمِ »: لِلْفَاضِلِ مُحَمَّد عُودَة
الرُّحَيْلِي / نَشْر دَار الرِّسَالَة فِي مَكَّةَ - طَبْعَة سَنَةَ 1404
هـ ، وَهُوَ يَقَعُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِئَتَيْ صَفْحَةٍ.
وَقَدِ اسْتَفَدْنَا مِنْهُ، وَانْتَفَعْنَا بِهِ - فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً -.
__________________
قال ابن قيّم الجوزيّة - رحمه الله تعالى - :
[
لمّا تكاثرت عليّ الإيرادات وتواردت عليّ الشبهات، فزَعْتُ إلى شيخنا أبي
العبّاس أستنصحهُ وأسترشده، فقال لي مُوَصّياً وناصِحاً ومُبَيّناً
ومُحَذّرا :
لا
تجعل قلبك للإيرادات والشبُهات مِثلَ الإسفنجـــــة فيتشرّبها، فلا
ينضَـــــح إلاّ بهـــــا، ولكن اجعله كالزجاجـــــة المُصمّتة تمرّ
الشبهـــــات بظاهرهــــــا ولا تستقِرّ فيها، فيراهـــــا بصفائه
ويدفعهـــــا بصلابتــــــه، وإلاّ فإذا أشْرَبْتَ قلبكَ كُلّ
شُبْهَــــــةٍ تَمُرُّ عليهــــــا صار مَقَرّاً للشبهـــــــات ].
قال : فواللهِ ما نفعني اللهُ بشئ بعدَ الإسلام مِثلَ ما نفعني بنصيحــــــة شيخِ الإسلام ].
[ مفتاح دار السعادة1/ 443 ].