قال لي صاحبي: ((هل مات والدك.....؟ هل جربت هذا الإحساس من قبل...؟))
إذا
لم تكن جربته فتعال معي أصفه لك....بين عشية وضحاها يختفي من حياتك من كان
سبباً في حياتك, يختفي ويترك خلفه مئات الذكريات التي تملأ عقلك وقلبك،
يختفي فجأة دون سابق إنذار، وهذا دأب الموت دائماً يأتي على حين غفلة ولا
يفرق بين كبير أو صغير.
تصحوا على الخبر المزعج أن أباك قد مات وأنت
لا تصدق؛ لقد كان معي منذ أيام وكنا نتكلم في الزواج والبيت والأسرة وكان
يملأ البيت ضحكاً بتعليقاته الساخرة.
الذي لا تعرفه - أو ربما تعرفه
ولكن تتجاهله- هو أن البشر كل البشر لا يدركون قيمة ما يملكون إلا حين
يفقدونه، وأنت لن تدرك قيمة أبيك لا حين تفقده -لا قدّر الله- عندها تسترجع
ذكرياتك معه وتسأل نفسك سؤالاً واحداً ولكنه يحمل دوي آلاف المدافع في
عقلك وكيانك كله.......
هل مات وهو عني راض...؟هل لا زال يذكر
أخطائي وإساءاتي معه أم أنه عفا عني بقلبه الرحيم، قلب الأب الذي لا يحمل
ضغينة لأبنائه مهما فعلوا معه؟إن كان عفا عني فكيف لي أن أعرف وهل كان من
الممكن أن أبلغ منزلة أعلى من هذه المنزلة معه وإن كان يذكر أخطائي وفي
قلبه شيء من ناحيتي فكيف لي أن أعرف أيضا؟ وهل من الممكن أن أكفر عن هذا
الذنب؟)).
انتهى كلام صاحبي عند هذه النقطة ولم يستطع أن يكمل كلامه
بعد أن أجهش بالبكاء وأنا أنظر إليه في شفقة وأعذره لأن وقع المصيبة كان
شديداً عليه, وتذكرت لحظتها "إياس بن معاوية" لما ماتت أمه بكى، فقيل له ما
يبكيك, قال: (كان لي بابان مفتوحان من الجنة فأغلق واحد وإني لأرجو ألا
يغلق الآخر حتى أدخل أنا و أبي سوية إلى الجنة) .
وتذكرت ساعتها
قصص سلفنا الصالح في برهم بآبائهم فقد روى "المأمون" أنه لم يرى أحد أبر من
"الفضل بن يحي" بأبيه، ((فقد كان أبوه لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فلما دخلا
السجن منعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة فلما نام أبوه قام الفضل
وأخذ إناء الماء وأدناه من المصباح فلم يزل قائماً به حتى طلع الفجر، فقام
أبوه فصب عليه الماء الدافئ، فلما كانت الليلة الأخرى أخفى السجان المصباح
فقام الفضل فأخذ الإناء فأدخله تحت ثيابه ووضعه على بطنه حتى يدفأ بحرارة
بطنه متحملاً بذلك برودة الماء والجو...)).
و إليك أخي هذه القصة
التي أبكت "عمر بن الخطاب" وأبكت كل من كان حوله.....!((جاء في بعض الكتب
أن أمية الكناني كان رجلاً من سادات قومه وكان له ابناً يسمى كلاباً, هاجر
إلى المدينة في خلافة عمر رضي الله عنه, فأقام بها مدة ثم لقي ذات يوم بعض
الصحابة فسألهم أي الأعمال أفضل في الإسلام, فقالوا: "الجهاد"، فذهب كلاب
إلى عمر يريد الغزو, فأرسله عمر رضي الله عنه إلى جيش مع بلاد الفرس فلما
علم أبوه بذلك تعلق به وقال له: "لا تدع أباك وأمك الشيخين الضعيفين, ربياك
صغيراً، حتى إذا احتاجا إليك تركتهما؟" فقال: "أترككما لما هو خير لي" ثم
خرج غازياً بعد أن أرضى أباه، فأبطأ في الغزو وتأخر.
وكان أبوه وأمه
يجلسان يوماً ما في ظل نخل لهم وإذا حمامة تدعوا فرخها الصغير وتلهو معه
وتروح وتجئ، فرآها الشيخ فبكى فرأته العجوز يبكي فبكت ثم أصاب الشيخ ضعف في
بصره، فلما تأخر ولده كثيراً ذهب إلى عمر رضي الله عنه ودخل عليه المسجد
وقال: "والله يا ابن الخطاب لئن لم ترد علي ولدي لأدعون عليك في عرفات"،
فكتب عمر رضي الله عنه برد ولده إليه، فلما قدم ودخل عليه قال له عمر: "ما
بلغ برك بأبيك؟" قال: "كنت أُفضله وأكفيه أمره, وكنت إن أردت أن أحلب له
لبناً أجيء إلى أغزر ناقة في أبله فأريحها وأتركها حتى تستقر ثم أغسل
أخلافها -أي ضروعها- حتى تبرد ثم أحلب له فأسقيه" فبعث عمر إلى أبيه فجاء
الرجل فدخل على عمر رضي الله عنه وهو يتهاوى وقد ضعف بصره وانحنى ظهره وقال
له "عمر" رضي الله عنه: "كيف أنت يا أبا كلاب؟" قال: "كما ترى يا أمير
المؤمنين" فقال: "ما أحب الأشياء إليك اليوم" قال: "ما أحب اليوم شيئاً، ما
أفرح بخير ولا يسوءني شر" فقال عمر: "فلا شيء آخر" قال: "بلى, أحب أن
كلاباً ولدي عندي فأشمه شمة وأضمه ضمة قبل أن أموت" فبكى رضي الله عنه
وقال: "ستبلغ ما تحب إن شاء الله".
ثم أمر كلاباً أن يخرج ويحلب
لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه فقام ففعل ذلك ثم جاء وناول
الإناء إلى عمر فأخذه رضي الله عنه وقال أشرب يا أبا كلاب فلما تناول
الإناء ليشرب وقربه من فمه قال: "والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة
يدي كلاب" فبكى عمر رضي الله عنه وقال: "هذا كلاب عندك وقد جئناك به" فوثب
إلى ابنه وهو يضمه ويعانقه وهو يبكي فجعل عمر رضي الله عنه والحاضرون يبكون
ثم قال عمر: "يا بني الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا ثم اعتنى بشأن نفسك
بعدهما" ))...
هيا أخي بادر ببر أبويك وكن كهؤلاء الأفذاذ قبل أن
تصحو يوما على مفاجأة مفزعة والناس حولك يقولون لك عظم الله أجرك فقد مات
والدك.....