إِنَّ الْحَمْدَ للهِ ، نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِيْنُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ .وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، أَمَّا بَعْد :
منتدى الحديث والسيرة النبوية
الرواية بالمعنى وضوابطها وأثر ذلك في الحكم الشرعي
غسان إسماعيل أبوحارث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد :
فهذا بحث في معرفة ضوابط الرواية بالمعنى وأثرها في الحكم الشرعي، والله اسأل الإخلاص بالقول والعمل.
الرواية بالمعنى وضوابطها وأثر ذلك في الحكم الشرعي
اتفق أهل العلماء على أن الواجب رواية الحديث بألفاظه كما هي التي سمع بها مقتصراً عليها بدون تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقص لحرف فأكثر ولا إبدال حرف أو أكثر بغيره، وعدم جواز رواية الحديث بالمعنى، إلا للعارف العالم، ثم إنهم اختلفوا في جواز الرواية بالمعنى للعالم.
ويمكن إجمالها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المنع مطلقاً، نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما، ونافع مولى ابن عمر، والقاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حيوة، وأبي معمر الأزدي، وعبد الله بن طاوس، ومالك بن أنس، وعبد الرحمن بن مهدي، وبه قال أبو إسحاق الإسفرائيني، وأبو بكر الرازي، وهو مذهب مالك وهو مذهب الظاهرية، وغيرهم([1]).
قال الإمام مالك بن أنس: ((كل حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يؤدى على لفظه وعلى ما روى وما كان عن غيره فلا بأس إذا أصاب المعنى))([2]).
وقال ابن رجب: ((وكان ابن عمر رضي الله عنه يشدد لفظ الحديث، وينهي عن تغير الشئ منه، كذلك محمد بن سيرين، والقاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة. وهو قول مالك في حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصة، دون حديث غيره، وروي عنه قال: "أستحب ذلك".
وحكى الإمام أحمد عن وكيع أنه كان يحدث على المعنى، وأن ابن مهدي كان يتبع الألفاظ ويتعاهدها))([3]).
أدلتهم:
الأول: عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ"([4]).
وقد جاء الحديث بألفاظ متعددة.
والثاني: عن البراء بن عازب، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وجهي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمري إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظهري إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ.
قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلْتَ. قُلْتُ وَرَسُولِكَ. قَالَ: لاَ ، وَنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ"([5]).
وقد أجاب عن هذين الحديثين الرامهرمزي حيث قال: ((قوله: "فأداها كما سمعها" فالمراد منه حكمها لا لفظها لأن اللفظ غير معتبر به ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: "فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
وأما رده عليه السلام الرجل من قوله: "برسولك" إلى قوله: "وبنبيك" فان النبي أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة جميعاً فلما قال: "وبنبيك الذي أرسلت" جاء بالنعت الأمدح وقيده بالرسالة بقوله: "الذي أرسلت".
وبيان آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو المعلم للرجل الدعاء وإنما القول في أتباع اللفظ إذا كان المتكلم حاكياً لكلام غيره فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل الرجل من قوله: "وبرسولك" إلى قوله: "وبنبيك" ليجمع بين النبوة والرسالة ومستقبح في الكلام أن يقول هذا رسول عبد الله الذي أرسله وهذا قتيل زيد الذي قتله لأنك تجتزىء بقولك رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة اسم المرسل والقاتل إذا كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول وإنما يحسن أن تقول هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أو في وقعة كذا، والله ولي التوفيق))([6]).
وقال القاسمي رداً على الحديث الأول: ((أن الأداء كما سمع ليس مقصوداً على نقل اللفظ بل النقل بالمعنى من غير تغيير أداء كما سمعن فإنه أدى المعنى كما سمع لفظه وفهمه منه نظيره أن الشاهد والمترجم إذا أدى المعنى من غير زيادة ولا نقصان يقال: إنه أدى كما سمع وإن كان الأداء بلفظ آخر ولو سلم أن الأداء كما سمع مقصور على نقل اللفظ فلا دلالة في الحديث على عدم الجواز غايته أنه داء للناقل باللفظ لكونه أفضل ولا نزاع في الأفضلية))([7]).
القول الثاني: الجواز.
قد رخص في سوق الحديث بالمعنى، دون سياقه على اللفظ، جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب وأنس بن مالك وأبو الدرداء وواثلة بن الأسقع وأبو هريرة رضي الله عنهم، ثم جماعة من التابعين منهم: الحسن البصري والشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة وغيرهم([8]).
أدلتهم:
الدليل الأول: حديث عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أوديه كما أسمعه منك يزيد حرفاً أو ينقص حرفاً، فقال: "إذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلال وأصبتم المعنى فلا بأس"([9]).
وكذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وغيره([10]).
والجواب عن هذا الدليل: لم يصح شيء من الأحاديث المرفوعة.
قال ابن رجب: ((وروي فيه – أي في جواز الرواية بالمعنى – أحاديث مرفوعة، لا يصح شيء منها))([11]).
الدليل الثاني: أن الصحابة نقلوا قصة واحدة بألفاظ مختلفة مذكورة في مجلس واحد ولم ينكر بعضهم على بعض فيه([12]).
الجواب عليه: قال القاضي عياض: ((ولا يحتج باختلاف الصحابة في نقل الحديث الواحد بألفاظ مختلفة فإنهم شاهدوا قرائن تلك الألفاظ وأسباب تلك الأحاديث وفهموا معانيها حقيقة فعبروا عنها بما اتفق لهم من العبارات أذ كانت محافظتهم على معانيها التي شاهدوها والألفاظ ترجمة عنها.
وأما من بعدهم فالمحافظة أولا على الألفاظ المبلغة إليهم التي منها تستخرج المعاني فما لم تضبط الألفاظ وتتحرى وتسومح في العبارات والتحدّث على المعنى انحل النظم واتسع الخرق.
وجواز ذلك للعالم المتبحر معناه عندي على طريق الاستشهاد والمذاكرة والحجة وتحريه في ذلك متى أمكنه أولى كما قال مالك وفى الأداء والرواية آكد))([13]).
الدليل الثالث: أنه يجوز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فبأن يجوز إبدالها بعربية أخرى أولى ومن أنصف علم أن التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها وبين العجمية([14]).
الجواب عليه: وقد رد عليهم طاهر الجزائري حيث قال: ((ففيه أمران:
الأمر الأول: أن ذلك إنما أجيز للضرورة وهو شرح الشرع لمن لا يحسن العربية بلسانه الذي يحسنه لا سيما إن كان ممن دخل في الدين حديثا ولم يكن له إلمام بالعربية فإنه يعرف الدين أولا بلغته ثم يؤمر بأن يتعلم من العربية ما يعرف به ما يلزمه من أمر الدين رأسا من غير احتياج إلى ترجمة وذلك تقديما للأهم على المهم... .
الأمر الثاني: أن استدلالهم بما ذكر غير ظاهر وذلك أنهم إن أرادوا أن الحديث حيث جاز إبدال ألفاظه بألفاظ أخرى من اللغة الأعجمية على طريق الترجمة يكون إبدال ألفاظه بألفاظ أخرى من اللغة العربية على طريق الرواية بالمعنى أولى بالجواز ورد عليهم القرآن فإنهم أجازوا إبدال ألفاظه بألفاظ أخرى من اللغة الأعجمية على طريق الترجمة ولم يجز أحد إبدال ألفاظه بألفاظ أخرى من اللغة العربية على طريق الرواية بالمعنى))([15]).
القول الثالث: إتباع اللفظ لمن ليس بفقيه.
قال ابن حبان: ((الثقة الحافظ إذا حدث من حفظه وليس بفقيه، لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره، لان الحفاظ الذين رأيناهم أكثرهم كانوا يحفظون الطرق والأسانيد دون المتون، ولقد كنا نجالسهم برهة من دهرنا على المذاكرة، ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا كلمة واحدة يشيرون إليها، وما رأيت على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن، ويحفظ الصحاح بألفاظها، ويقوم بزيادة كل لفظة تزاد في الخبر ثقة، حتى كأن السنن كلها نصب عينيه إلا محمد بن إسحق بن خزيمة - رحمة الله عليه - فقط.
فإذا كان الثقة الحافظ لم يكن فقها وحدث من حفظه، فربما قلب المتن، وغير المعنى، حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه، ويقلب إلى شيء ليس منه، وهو لا يعلم، فلا يجوز عندي الاحتجاج بخبر من هذا نعته، إلا أن يحدث من كتاب، أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار))([16]).
وقد رد عليه ابن رجب حيث قال: ((وفيما ذكر نظر، وما أظنه سبق إليه، ولو فتح هذا الباب لم يحتج بحديث انفرد به عامة حفاظ المحدثين كالأعمش وغيره، ولا قائل بذلك.
اللهم إلا أن يعرف من أحد أنه كان لا يقيم متون الأحاديث، فيتوقف حينئذ فيما انفرد به. فأما مجرد هذا الظن فيمن ظهر حفظه وإتقانه، فلا يكفي في رد حديثه. والله أعلم))([17]).
القول المختار: جواز الرواية بالمعنى بشروط:
والشروط هي باعتبار الراوي والمروي.
أما باعتبار الراوي فيشترط فيه:
1- أن يكون عالماً عارفاً بالألفاظ ومقصودها.
2- أن يكون خبيراً بما تحيل معانيها.
3- أن يكون خبيراً بمقادير التفاوت بينهما.
4- أن يتثبت ويعرف معناه يقيناً.
أما باعتبار المروي فيشترط:
1- أن لا يتغير المعنى ولا يكون متناقضاً.
2- أن يفتي بمعناه وبموجبه فيقول: حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو أمر عليه السلام بكذا أو أباح عليه السلام بكذا وهكذا.
قال يحيى بن سعيد: ((أخاف أن يضيق على الناس تتبع الألفاظ لأن القرآن أعظم حرمة ووسع أن يقرأ على وجوه إذا كان المعنى واحداً))([18]).
وقال الترمذي في جامعه: ((فأما من أقام الإسناد وحفظه، وغير اللفظ. فإن هذا واسع عند أهل العلم إذا لم يتغير الْمعنى.
حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، أخبرنا معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن وائلة ابن الاسقع، قال: إذا حدثناكم على الْمعنى فحسبكم.
حدثنا يحيى بن موسى، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن محمد ابن سيرين، قال: كنت أسمع الحديث من عشرة; اللفظ مختلف والمعنى واحد.
حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن ابن عون، قال كان إبراهيم النخعي والحسن والشعبي يأتون بالحديث على الْمعاني، وكان القاسم بن محمد، ومحمد ابن سيرين ورجاء بن حيوة يعيدون الحديث على حروفه.
حدثنا على بن خشرم، أخبرنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول، قال قلت لأبي عثمان النهدي: إنك تحدثنا بالحديث، ثم تحدثنا به على غير ما حدثتنا ؟ قال عليك بالسماع الأول.
حدثنا الجارود، أخبرنا وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن، قال: إذا أصبت الْمعنى أجزأك...)).
قال ابن رجب معلقاً على كلام الترمذي: ((مقصود الترمذي رحمه الله بهذا الفصل الذي ذكره ههنا أن من أقام الأسانيد وحفظها وغيّر المتون تغيراً لا يغير المعنى أنه حافظ ثقة يعتبر بحديثه، وبنى ذلك على أن رواية الحديث بالمعنى جائزة، وحكاه عن أهل العلم.
وكلامه يشعر بأنه إجماع، وليس كذلك، بل هو قول كثير من العلماء، ونص عليه أحمد، وقال: "ما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى".
وإنما يجوز ذلك لمن هو عالم بلغات العرب، بصيراً بالمعاني، عالماً بما يحيل المعنى وما لا يحيله، نص على ذلك الشافعي))([19]).
قال ابن رجب في شرح صحيح البخاري: ((اخْتِلاَف ألفاظ الرواية يدل عَلَى أنهم كانوا يروون الحَدِيْث بالمعنى، ولا يراعون اللفظ، فإذا كَانَ أحد الألفاظ محتملاً، والآخر صريحاً لا احتمال فِيهِ، علم أنهم أرادوا باللفظ المحتمل هُوَ مَا دل عَلَيْهَا اللفظ الصريح الَّذِي لا احتمال فِيهِ، وأن معناهما عندهم واحد، وإلا لكان الرواة قَدْ رووا الحَدِيْث الواحد بألفاظ مختلفة متناقضة، ولا يظن ذَلِكَ بهم مَعَ علمهم وفقههم وعدالتهم وورعهم))([20]).
وقال ابن حزم: ((أن يورد بنص لفظه لا يبدل ولا يغير إلا في حال واحدة وهي أن يكون المرء قد تثبت فيه وعرف معناه يقيناً فيسأل فيفتي بمعناه وموجبه فيقول: حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وأمر عليه السلام بكذا وأباح عليه السلام كذا ونهى عن كذا وحرم كذا والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذا))([21]).
وقال في موضع آخر: ((وليس اختلاف الروايات عيباً في الحديث إذا كان المعنى واحداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحداً))([22]).
وقال ابن الصلاح: ((فإن لم يكن عالماً عارفاً بالألفاظ ومقاصدها خبيراً بما يحيل معانيها بصيراً بمقادير التفاوت بينها فلا خلاف أنه لا يجوز له ذلك وعليه أن لا يروي ما سمعه إلا على اللفظ الذي سمعه من غير تغيير... .
والأصح : جواز ذلك في الجميع إذا كان عالماً بما وصفناه قاطعا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين.
وكثيراً ما كانوا ينقلون معنى واحداً في أمر واحد بألفاظ مختلفة وما ذلك إلا لأن معولهم كان على المعنى دون اللفظ))([23]).
وقال المعلمي: ((الخلاف بالرواية مما لا يغير المعنى، كالتقديم والتأخير وإبدال كلمة بأخرى مرادفة لها وجعل الضمائر التي للمخاطب للمتكلم. وغيره فهذا من الرواية بالمعنى. وكانت شائعة بينهم فلا تضر))([24]).
وقال العلامة أحمد شاكر: ((والمتبع للأحاديث يجد أن الصحابة –أو أكثرهم- كانوا يروون بالمعنى، ويعبرون عنه في كثير من الأحاديث بعباراتهم، وأن كثيراً منهم حرص على اللفظ النبوي، خصوصاً فيما يتعبد بلفظه، كالتشهد، والصلاة، وجوامع الكلم الرائعة، وتصرفوا في وصف الأفعال والأحوال وما إلى ذلك.
وكذلك نجد التابعين حرصوا على اللفظ، وإن اختلفت ألفاظهم، فإنما مرجع ذلك إلى قوة الحفظ وضعفه. ولكنهم أهل فصاحة وبلاغة، وقد سمعوا ممن شهد أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسمع ألفاظه.
وأما من بعدهم، فإن التساهل عندهم في الحرص على الألفاظ قليل، بل أكثرهم يحدث بمثل ما سمع، ولذلك ذهب ابن مالك –النحوي الكبير- إلى الاحتجاج بما ورد في الأحاديث على قواعد النحو واتخذها شواهد كشواهد الشعر، وإن أبى ذلك أبو حيان رحمه الله. والحق ما اختاره ابن مالك.
وأما الآن، فلن ترى عالماً يجيز لأحد أن يروي الحديث بالمعنى، إلا على وجه التحدث في المجالس. وأما الاحتجاج وإيراد الأحاديث رواية فلا.
ثم إن الراوي ينبغي له أن يقول عقب رواية الحديث: "أو كما قال" أو كلمة تؤدي هذا المعنى، احتياطاً في الرواية. خشية أن يكون الحديث مروياً بالمعنى. وكذلك ينبغي له هذا إذا وقع في نفسه شك في لفظ ما يرويه. ليبرأ من عهدته))([25]).
ما أثر الرواية بالمعنى على الحكم الشرعي:
إن رواية الحديث بالمعنى الصادرة من غير العالم العارف ...إلخ.
قد يسبب هذا إحالة الحديث عن أصله، وهذا ما وقع من بعض الرواة وقد نقل الحافظ ابن رجب في شرحه على علل الترمذي أمثلة ذلك حيث قال: ((وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه فغيروا المعنى.
1- مثل ما اختصره بعضهم من حديث عائشة في حيضها في الحج أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لها وهي حائضاً: "أتقضي رأسك وامتشطي" وأدخله في أبواب غسل الحيض. وقد أنكر ذلك على من فعله لأنه يخل بالمعنى، فإن هذا لم تؤمر به في الغسل من الحيض عند النقطاعه، بل في غسل الحائض إذا أرادت الإحرام وهي حائض.
2- وروى بعضهم حديث: "إذا قرأ - يعني الإمام – فأنصتوا" بما فهمه من المعنى، فقال: "إذا قرأ الإمام ولا الضالين فأنصتوا"، فحمله على فراغه من القراءة لا على شروعه فيها.
3- وروى بعضه حديث: "كنا نؤديه على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم"، يريد زكاة الفطر فصحف "نؤديه" فقال: "نورثه" ثم فسره من عنده فقال: يعني الجد. كل هذا تصرف سيئ لا يجوز مثله))([26]).
أما إذا صدر من العالم العارف بالألفاظ ومدلولها، فإنه يقبل منه ما رواه بالمعنى وقد بيّن الحافظ ابن رجب في شرح صحيح البخاري مثال ذلك حيث قال: ((روى حجاج بن أرطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، وقال فيه - بعد ذكر صلاة الظهر - ثم حضرت العصر ، فقام بلال فأذن، فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ركعتين. خرّجه من طريقه ابن سعد ([27]).
وهو صريح في أنه لم يجمع بين الصلاتين .
وحجاج بن أرطاة([28])، وإن كان متكلماً فيه، إلا أنه فقيه يفهم معنى الكلام، فيرجع إلى زيادته على من ليس له مثل فهمه في الفقه والمعاني)) ([29]).
فقبل منه الحافظ ابن رجب روايته الحديث بالمعنى وإن كان متكلماً فيه لأنه فقيه يفهم بما تحيل إليه المعاني، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق برواية الحديث بالمعنى
المسألة الأول: هل يجوز اختصار الحديث.
اختلف العلماء في ذلك :
القول الأول: المنع مطلقاً.
القول الثاني: الجواز مطلقاً.
القول الثالث: التفصيل: وهو أنه يجوز اختصار الحديث من العالم العارف إذا كان ما تركه متميزاً عما نقله غير متعلق به بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما تركه ثم هذا إذا كان رفيع المنزلة بحيث لا يتطرق إليه في ذلك تهمة نقله أولا تماما ثم نقله ناقصا أو : نقله أولا ناقصا ثم نقله تاماً... .
من كان هذا حاله فليس له من الابتداء أن يروي الحديث غير تام إذا كان قد تعين عليه أداء تمامه لأنه إذا رواه أولا ناقصا أخرج باقيه عن حيز الاحتجاج به ودار: بين أن لا يرويه أصلا فيضيعه رأساً وبين أن يرويه متهما فيه فيضيع ثمرته لسقوط الحجة فيه والعلم عند الله تعالى([30]).
قال الخطيب البغدادي: ((والذي نختاره في ذلك انه إن كان فيما حذف من الخبر معرفة حكم شرط وأمر لا يتم التعبد والمراد بالخبر إلا بروايته على وجهه فإنه يجب نقله على تمامه ويحرم حذفه لأن القصد بالخبر لا يتم إلا به فلا فرق بين أن يكون ذلك تركاً لنقل العبادة كنقل بعض أفعال الصلاة أو تركاً لنقل فرض آخر هو الشرط في صحة العبادة كترك نقل وجوب الطهارة ونحوها وعلى هذا الوجه يحمل قول من قال لا يحل اختصار الحديث)).
ثم قال: ((فان كان المتروك من الخبر متضمناً لعبارة أخرى وأمراً لا تعلق له بمتضمن البعض الذي رواه ولا شرطاً فيه جاز للمحدث رواية الحديث على النقصان وحذف بعضه وقام ذلك مقام خبرين متضمنين عبارتين منفصلتين وسيرتين وقضيتين لا تعلق لأحدهما بالأخرى فكما يجوز لسامع الخبر الواحد القائم فيما تضمنه مقام الخبرين اللذين هذه حالهما رواية أحدهما دون الآخر فكذلك يجوز لسامع الخبر الواحد القائم فيما تضمنه مقام الخبرين المنفصلين رواية بعضه دون بعض)).
ثم قال: ((وإن خان من روى حديثاً على التمام إذا أراد روايته مرة أخرى على النقصان لمن رواه له قبل تاماً إن يتهمه بأنه زاد في أول مرة ما لم يكن سمعه أو أنه نسي في الثاني باقي الحديث لقلة ضبطه وكثرة غلطه وجب عليه أن ينفي هذه الظنة عن نفسه لأن في الناس من يعتقد في راوي الحديث كذلك انه ربما زاد في الحديث ما ليس منه وانه يغفل ويسهو عن ذكر ما هو منه وانه لا يؤمن أن يكون أكثر حديثه ناقصاً مبتوراً فمتى ظن الراوي اتهام السامع منه بذلك وجب عليه نفيه عن نفسه وان كان النقصان من الحديث شيئاً لا يتغير به المعنى كحذف بعض الحروف والألفاظ والراوي عالم واع محصل لما يغير المعنى وما لا يغيره من الزيادة والنقصان فان ذلك سائغ له على قول من أجاز الرواية على المعنى دون من لم يجز ذلك))([31]).
قال ابن كثير: ((فالذي عليه صنيع أبي عبد الله البخاري: اختصار الأحاديث في كثير من الأماكن.
وأما مسلم فإنه يسوق الحديث بتمامه، ولا يقطعه. ولهذا رجحه كثير من حفاظ المغاربة، واستروح إلى شرحه آخرون، لسهولة ذلك بالنسبة إلى صحيح البخاري وتفريقه الحديث في أماكن متعددة بحسب حاجته إليه. وعلى هذا المذهب جمهور الناس قديماً وحديثاً))([32]).
قال ابن حجر: ((أما اختصار الحديث: فالأكثرون على جوازه، بشرطِ أن يكون الذي يَخْتَصِرُهُ عالماً؛ لأن العالم لا يَنْقُص من الحديث إلا ما لا تَعَلُّقَ له بما يُبْقيه منه، بحيث لا تختلف الدلالة، ولا يختلُّ البيان، حتى يكون المذكور والمحذوف بمنزلة خَبَرَيْنِ، أو يدل ما ذكره على ما حذفه، بخلاف الجاهل فإنه قد يُنْقِص ما له تَعَلُّقٌ، كترك الاستثناء))([33]).
المسألة الثانية: تقطيع متن الحديث من أجل تفريقه في الأبواب.
إذا كان المتن متضمناً لعبادات وأحكام لا تعلق لبعضها ببعض فإنه بمثابة الأحاديث المنفصل بعضها من بعض ويجوز تقطيعه وكان غير واحد من الأئمة يفعل ذلك([34]).
قال ابن الصلاح: ((وأما تقطيع المصنف متن الحديث الواحد وتفريقه في الأبواب: فهو إلى الجواز أقرب ومن المنع أبعد وقد فعله "مالك" و "البخاري: وغير واحد من أئمة الحديث ولا يخلو من كراهية، والله أعلم))([35]).
وأما قول إسحاق بن إبراهيم أنه سأل أبا عبد الله –أحمد بن حنبل- عن الرجل يسمع الحديث وهو إسناد واحد فيجعله ثلاثة أحاديث قال لا يلزمه كذب وينبغي أن يحدث بالحديث كما سمع ولا يغيره([36]).
أن كلام الإمام أحمد إنما هو عند أداء الحديث من قبل الراوي، وأما تقطيع الحديث بقصد الاستدلال فالأمر أوسع.
والواقع التطبيقي في مصنفات الحديث، خصوصاً تلك التي اعتنت بالأبواب، كثرة وقوع ذلك فيها، والإمام البخاري من أكثر استعمالاً لذلك في صحيحه، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: إحالة الرواية على سياق مذكور.
والمقصود: إذا روى المحدث الحديث بإسناد ثم أتبعه بإسناد آخر وقال عند انتهائه "مثله" أو "نحوه" فهل للراوي عنه أن يقتصر على الإسناد الثاني ويسوق لفظ الحديث المذكور عقيب الإسناد الأول.
في ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: المنع. وهو قول شعبة فقد روي عنه أنه قال فلان عن فلان مثله لا يجزئ وروي عنه أنه قال قول الراوي نحوه شك.
القول الثاني: جواز ذلك إذا عرف أن الراوي لذلك ضابط متحفظ يذهب إلى تمييز الألفاظ وعد الحروف فإن لم يعرف منه ذلك لم يجز، وهو قول سفيان الثوري.
القول الثالث: جواز ذلك في قوله مثله وعدم جواز ذلك في قوله نحوه وهو قول يحيى ابن معين حيث يقول: ((قول إذا كان حديث عن رجل وحديث آخر عن رجل مثله فلا بأس أن يرويه إذا كان مثله إلا أن يقول نحوه)).
قال الخطيب: ((وهذا القول على مذهب من لم يجز الرواية على المعنى فأما على مذهب من أجازها فلا فرق بين مثله، ونحوه، والله اعلم)) ([37]).
قال ابن الصلاح: ((هذا له تعلق بما رويناه عن مسعود بن علي السجزي: أنه سمع الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: "إن مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان أن يفرق بين أن يقول: "مثله" أو يقول: "نحوه" فلا يحل له أن يقول: "مثله" إلا بعد أن يعلم أنهما على لفظ واحد ويحل أن يقول: "نحوه" إذا كان على مثل معانيه"، والله أعلم))([38]).
وهناك مسائل منها:
مسألة: إذا كان الحديث عند الراوي عن اثنين أو أكثر وبين روايتهما تفاوت في اللفظ والمعنى واحد.
مسألة: إذا وقع في روايته لحن أو تحريف.
وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين
كتبه غسان أبو الحارث البغدادي
[1] - الخطيب البغدادي، الكفاية ص206، وابن رجب، شرح علل الترمذي (2/429)، وطاهر الجزائري، توجيه النظر (2/683)، والجديع، تحرير علوم الحديث (1/180).
[2] - نقله الخطيب في الكفاية ص207، تحت باب ذكر الحكاية عمن قال يجب أداء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على لفظه ، ويجوز رواية غيره على المعنى .
[3] - ابن رجب، شرح علل الترمذي (2/429).
[4] - أخرجه الترمذي (2657)، وابن حبان في صحيحه (66)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد رواه عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله.
[5] - أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710).
[6] - المحدث الفاصل ص532.
[7] - قواعد التحديث ص225.
[8] - ينظر: الخطيب البغدادي، الكفاية ص203-211، وابن رجب، شرح علل الترمذي (1/328-429)، والقاسمي، قواعد التحديث ص221-223.
[9] - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7/100)، وأبو نعيم في معجم الصحابة (9/311).
[10] - ينظر: الخطيب البغدادي، الكفاية ص100.
[11] - ابن رجب، شرح علل الترمذي (1/429).
[12] - استدل به: الغزالي، المستصفى ص134، والرازي، المحصول في علم الأصول (4/669).
[13] - الالماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص157.
[14] - أستدل به: الرازي، المحصول في علم الأصول (4/668)، والغزالي، المستصفى ص133.
[15] - توجيه النظر (3/693-694).
[16] - كتاب المجروحين (1/93).
[17] - شرح علل الترمذي (1/431).
[18] - الخطيب، الكفاية ص210.
[19] - ابن رجب ، شرح علل الترمذي (425-427).
[20] - ابن رجب، فتح الباري (4/149).
[21] - الإحكام في أصول الأحكام (2/213).
[22] - نفس المصدر (1/130).
[23] - مقدمة ابن الصلاح ص20 .
[24] - المعلمي اليماني، عمارة القبور ص157.
[25] - الباعث الحثيث ص101.
[26] - شرح علل الترمذي (1/427) بتصرف.
[27] - أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/311) .
[28] - حجاج بن أرطاة بن ثور بن هبيرة بْن شراحيل بن كعب بن سلامان بن عامر بن حارثة بن سعد بن مالك ابن النخع النخعي ، أبو أرطاة الكوفي القاضي.
وَقَال النَّسَائي : ليس بالقوي . [المزي ، تهذيب الكمال (1112) ، (5/420)] .
وَقَال أبو زُرْعَة : صدوق ، مدلس .
وَقَال أبو حاتم : صدوق ، يدلس عن الضعفاء يكتب حديثه ، فإذا قال : حَدَّثَنَا ، فهو صالح لا يرتاب في صدقه وحفظه إذا بين السماع ، لا يحتج بحديثه ، لم يسمع من الزُّهْرِيّ ، ولا من هشام بن عروة ، ولا من عكرمة . [ابن أبي حاتم ، الجرح والتعديل (3/155)] .
وَقَال أبو أحمد بن عدي : إنما عاب الناس عليه تدليسه عن الزُّهْرِيّ وغيره ، وربما أخطأ في بعض الروايات فأما أن يتعمد الكذب فلا ، وهو ممن يكتب حديثه . [ابن عدي ، الكامل (2/228)] .
وَقَال أبو بكر الخطيب : الحجاج أحد العلماء بالحديث والحفاظ له . [الخطيب ، تاريخ مدينة السلام (8/230)] .
وقال الحافظ ابن حجر : أحد الفقهاء صدوق كثير الخطأ والتدليس من السابعة . [ابن حجر ، تقريب التهذيب (1119)] .
[29]- ابن رجب ، فتح الباري (2/313) .
[30] - ابن الصلاح، علوم الحديث ص120 بتصرف.
[31] - الخطيب البغدادي، الكفاية ص190-193.
[32] - قال أحمد شاكر: ((أي على جواز اختصار الحديث، وعليه عمل الأئمة. والمفهوم أن هذا إذا كان الخبر وارداً بروايات أخرى تاماً، وأما إذا لم يرد تاماً من طريق أخرى، فلا يجوز، لأنه كتمان لما يوجب إبلاغه.
إذا كان الراوي موضحاً للتهمة في روايته فينبغي له أن يحذر اختصار الحديث بعد أن يرويه تاماً، لئلا يتهم بأنه زاد في الأول ما لم يسمع. أو أخطأ بنسيان ما سمع. وكذلك إذا رواه مختصراً وخشي التهمة: فينبغي له أن لا يرويه تاماً بعد ذلك. الباعث الحثيث ص101.
[33] - نزهة النظر ص119.
[34] - الخطيب، الكفاية ص193.
[35] - علوم الحديث ص120.
[36] - الخطيب، الكفاية ص194.
[37] - ينظر: الخطيب، الكفاية ص212-213، وابن الصلاح، علوم الحديث ص120.
[38] - ابن الصلاح، علوم الحديث ص125.