كنت أجلس كعادتي خلف أكوام الكتب والملفات
التي تعبق برائحة الغبار والرطوبة
في المكان الوحيد الذي أجد نفسي فيه
بعيداً عن دوامة الحياة التي تسمح لنا بالكاد المحافظة على توازننا فلا نقع
ولكن دون أن نتقدم أو حتى نلتقط أنفاسنا
قاطعني صوت دقات الباب ليخرجني من لحظات الدوار والتقاط ملامح الأشياء التي تمر بي
وعدت أقلب ذلك الملف القديم لأول قضية كسبتها في حياتي
هذه العادة التي أمارسها عند دخول أحدهم إلى مكتبي
لأستعيد لحظات التالق والنجاح .. وبعض من شبابي
المسافة بين الباب ومكتبي .. والرخام المعتق للأرضية يسمح لي أن استرق السمع إلى الخطوات القادمة
هذه المرة نسائية .. على غير العادة
فلم يكن شكلي ولا مكتبي يغري أي من بنات حواء ..
نظرت إلى ساعتي اليدوية الموضوعة أمامي وعدلت وضعيتها
قبل أن أخطف نظرة سريعة من خلف نظارتي وكأني أحاول التأكد من شئ
وأشرت لها بالجلوس
كنت أحب أن ابدأ التعرف من خلال الوجوه
لأن وجوهنا وحدها ما تعبر عن ذاتنا
ورغم ذلك كان وقفت أمام ملامحها عاجزاً
كأني أقف أمام الجوكندا
هناك شئ ما شدني إليها لحد الذهول
ملامحها التي أحببتها الآن .. أم شعوري أني قد أحببتها من قبل
أم أن رائحة السيجار التي أخذت تنفثة في عصبية
اضفت على الموقف صبغة الخيال
استاذ نادي ...
قالتها .. وعادت لممارسة غموضها في صمت
وكأنها لم تشعر بقطعة الحجر التي رمتها في بركة ذاكرتي الراكدة
نادي .. هذا الاسم الذي لم اسمعه منذ زمن لم اعد اتذكره
من المؤكد أنها لم تأت عن طريق أحد عملائي
أو عن طريق عن طريق أي دليل هاتف
فمن تكون ...
من أكون ... ؟!
لا أدري .. هل سمعت أفكاري ؟ أم أنني كنت أفكر بصوت عالي لا أكثر ؟
عفواً آنسة ... ؟
مجد .. مجدولين
لم يكن الإسم غريباً .. بل كان مألوفاً
رغم أنها قالته مثل بوند .. جميس بوند
كيف أستطيع أن أساعدك .. سيدتي ؟
اذا كنت تسأل ؟ فأنت لا ستطيع ان تقدم لي أي شئ .. .
ونهضت من أمامي وقد تغير وجهها وصوتها فجأة
لتعلوه حالة من الأحباط وخيبة الأمل
شعرت أني سببها
كنت على استعداد لعمل أي شئ لتبقى
فوقفت ممسكاً بيدها دون أن أشعر .. .
آسف سيدتي .. ولكن لم تتسنى لي الفرصة لقراءة ملفك
نظرت إلى يدي التي سحبتها في خجل
يمكنك قراءته .. وسأعود إليك ... إلى اللقاء
وخرجت حتى دون أن تنتظر جوابي
جلست في مكاني في ذهول .. لا أدري لكم من الوقت
وعندما عدت لوعيي .. أخذت أبحث في ملفاتي بسرعة
حتى عثرت على ملفها
فتحته بسرعة دون تفكير .. قبل أن أشعر بالخوف من ذلك
نعم .. لقد كانت هي
كانت الفتاة الوحيدة التي أتت لتودعني في محطة القطار
عندما تركت القرية لأول لمواصلة دراستي في المدينة
ووعدتها أن أعود قريباً ..ولم أعد منذ ذلك اليوم
أحببت لدغتها حين تناديني نادي .. بدل نادر
ركضت من خلف مكتبي حتى الحق بها
كانت قد اختفت .. وكأنها لم تأت
ولم تترك خلفها سوى قصاصة صغيرة
وكلمة واحدة .. سأعود
مع تمنياتي لكم بالتوفيق