لا شك أن تربية الأولاد التربية الصالحة واجبة وكلنا يهدف اليها ,
فكلنا يسعى لتحقيقها خاصة في ظل المؤثرات و الفتن التي يتعرض لها أبناؤنا .
وبعض الآباء يمنع ولده عن المؤثرات بحبسه في البيت , وآخر بالتخويف والردع ,
وللأسف فإننا لانجد لتلك الاسليب أي أثر على منع الأبناء من التأثر
بالمؤثرات السلبية التي قد ملأت المجتمعات , ونجدنا نميل دائما إلى أن نجعل
الحل هو تربية أبنائنا التربية الصحيحة على الحق والصواب ونملأ قلوبهم
بحب الإيمان وبحب الله سبحانه وبكره الذنب والمعصية , فلا نخاف عليهم إذن
مهما تعرضوا لمؤثرات سلبية ..
و لذلك كان من حق الولد أن يربى بالطرق الشرعية الصحيحة التي تحفظ عليه شخصيته السوية وترعاه أمام أي مؤثر سلبي .
وسنحاول أن نتتبع أهم الوسائل الإسلامية التي تشرع في تقويم سلوك الأبناء
وتوجيههم الوجهة الصحيحة , ونبدأ أول ما نبدأ به " الموعظة " كوسيلة
للتربية والتوجيه والتقويم , فقد وجدنا وسيلة الموعظة الحسنه احدي الوسائل
التي أشار القرآن الكريم إلي أتباعها في قوله تعالي : ( وإذ قال لقمان
لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) لقمان 13
إنه دليل علي أن من حقوق الأولاد علي آبائهم أن يجلسوا معهم للوعظ
والإرشاد والتقويم والتعليم والتوجيه , كهذا المجلس الذي جلسه لقمان عليه
السلام , فقد جعل الله تعالي ذلك من واجبات الآباء علي أبنائهم .
ولم يقتصر هذا الوعظ فقط علي الأب بالنسبة لابنه بل إن ذلك الأسلوب القرآني
يتبعه كل من الداعية إلي الله مع الناس , والمدرس لتلاميذه , والأخ
الكبير لأخيه الأصغر ,,وهكذا ..
بل جعلت تلك الموعظة طريقا مارسه الرسل صلوات الله عليهم مع أقوامهم حيث
قال تعالي آمرا رسوله صل الله عليه وسلم : " وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً
بليغاً " النساء 63
ولقد وصف الله تعالي تلك الموعظة حينما تؤثر في المتلقي الصادق فيستقبلها
في صدره وكأنه كان يتمني انتظارها فبمجرد سماعها تكن شفاءً للصدر من جفاء
طال في قلبه , وكان ذلك من آثارها الطيبة فقد قال تعالي : (يا أيها الناس
قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين )
فأغلب الأنفس البشرية تكون مستعدة لتقبل المواعظ إذا هي خرجت بشروطها
الصحيحة , خصوصا إذا كانت أنفسا طيبة نقية لم تتلوث بعد مثل أنفس الأبناء
لذلك بمجرد موعظتهم تجدهم يتأثرون تأثيراً كبيراً .
فالابن يتعظ وربما تكون تلك الموعظة بالنسبة له مؤقتة , لكنها تترك في قلبه
أثراً , وقد يعود إليها ويتذكرها عندما يقع في شيء يبعده عن ربه , فتجدها
له بمثابة جرس الإنذار.
لكن الموعظة كي تؤتي ثمارها لابد لها من ضوابط :
1- إتباع الصدق في الموعظة : فالابن مثله الأعلى والداه , فإن وجدهما
يتبعون الكذب في كلامهم ومعاملتهم فكيف تؤثر فيه موعظة أبويه ؟ إنه لن
يجعل لهما أذناً مصغية إلا عندما يتعاهدا بينهما الصدق في الحديث , فبقدر
الثقة في الواعظ يكون تأثير الموعظة
وقد نجد كثيرا من الأبناء لا يتأثرون لموعظة الأب أو الأم علي الرغم انها
لو قيلت من أحد الأصحاب أواحد الأقارب أو أحد المتحدثين في التلفاز أو
غيره قد تؤثر فيهم ويستمعون لها وينتبهون إليها ! وإنما سبب ذلك كثرة
موعظة الوالدين وضعفها وعدم مواطأتها للوقت المناسب , وعدم شعور الإبن
عندها برغبة في السماع .
والموعظة قد يتأثر بها الابن عندما يستقبلها من إنسان يُحبه, لذلك يجب علي
الواعظ قبل أن يقدم النصح والموعظة لمن يريد , عليه أن يترك وقتا بينه
وبين من يريد نصحه يتقرب إليه فيه بكل الطرق الحسنة التي تقرب بينهما
فعندما يصل ويتأكد أنه قد وصل لتلك النتيجة فيبدأ بتقديم النصح والموعظة
ولتكن لينة رفيقة , لقوله تعالى آمراً موسى وهارون عليهما السلام " فقولا
له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى"
كما ينبغي على الواعظ أن يتحلى بالصبر ولا ييأس لطول الوقت ولا ينتظر ممن
ينصحه الاستجابة السريعة لتلك الموعظة , وفي حال الأبناء فطول فترة
معايشتهما للأبوين والأسرة هي فترة وعظ ونصح وإرشاد , فيمكن للأبوين تقسيم
ذلك بهدوء وبرمجته بنظام .
2-الإقناع وهي محاوله الواعظ سواء كان الوالد أو غيره أن يقنع المتلقي
بالقضية التي يطرحها لكي يتقبلها عن رضا لا عن حياء أو ضغط أو مجرد انفعال
, فكثير من المحرمات بيّن الله تعالي علل الأحكام فيها وأسبابها ومنافعها
ومضارها ليعرض عنها الفاعل عن بينه وقناعه , فالله تعالي يقول في حرمه
الخمر والميسر والأنصاب والأذلام (يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر و الميسر
والأنصاب والأذلام رجس من عمل الشيطان فإجتنبوة لعلكم تفلحون) المائدة 9 ,
فبدأ الحكم الشرعي بتلك الأفعال مع تنفير النفس منها باعتبارها رجس .
وهذا الأسلوب الذي استخدمه رسول الله مع ذلك الشاب الذي جاء يستأذنه في
الزنا بكل جرأه وصراحة , فهمّ الصحابة رضي الله عنهم ليقعوا به فنهاهم
وأدناه وقال له : (أترضاه لأمك ؟!) قال لا , فقال صل الله عليه وسلم (فإن
الناس لا يرضونه لأمهاتهم ) قال: (أترضاه لأختك ؟!) قال لا قال :( فإن
الناس لا يرضونه لأخواتهم ) .. وهكذا صار الزنا أبغض شيء إلي ذلك الشاب
فيما بعد بسبب هذا الإقناع العقلي الذي جاء بأسلوب طيب هادئ بعيد عن غلظة
الحديث .
وسبحان الله تعالي ما حرم سلوكا ممنوعا إلا وجعل له في الواقع بديلا له
حلاال فحين تساعد إنسانا علي ألا يتبع سلوكا حراما فيحسن أن تعطي له أمثله
لأشياء بديله أحلها الله تعالي له فالزنا في الحرام يقابله العفة في
الحلال , والسرقة تبادلها الكسب الحلال..... وغيره , قال أبن القيم : "
وهذا لا يأتي إلا من عالم ناصح مشفق ,قد تاجر مع الله , وعامله بعلمه ,
فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء يحمي العليل عما
يضره ويصف له ما ينفعه فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان "
3-عدم الإلحاح في الموعظة : فتكرارها يتبعه شيء من الملل للابن وكذلك
إلقاؤها بأسلوب جاف أو في غير محلها أو طول وقت الموعظة فقد يصيب المستمع
بالسآمة والملل وقد يجعل هذا أثر الموعظة ضعيفاً بل قد ينعكس أثرها ,
ولهذا كان رسول الله صلي الله عليه وسلم لخبرته بالنفوس يتعهد أصحابه
بالنصح والتذكير أياما ًو أياماً ولا يكثر عليهم لئلا يملوا فعن عائشة رضي
الله عنها " أن النبي صل الله عليه وسلم كان يحدث حديثاً لو عدّه العادّ
لأحصاه " الصحيح
وعن عبد الله ابن مسعود قال كان النبي صل الله عليه وسلم " يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا " البخاري .
4- الموازنة بين الترهيب والتبشير في الموعظة فلا ينبغي أن نظل نتبع
أسلوب الترهيب كلما جلسنا لموعظة الأبناء , فالقرآن حادث الذي جاوز الحد
في العصيان بأنه ينبغي عليه ألا يقنط من رحمه الله حيث أن الله سبحانه
يغفر الذنوب جميعها .
وأيضاً لا نتبع المبالغة في التبشير لأن ذلك قد يؤدي إلي الاستهانة بحدود الله سبحانه وإطفاء الخوف والخشية من الله سبحانه
لذلك كان إلزام المربي بسنه رسول الله صل الله عليه وسلم في التربية المزج
بين هاتين الناحيتين لأن كليهما يخاطب النفس البشرية , فقد قال تعالي على
لسان نبيه : (إنْ أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) الأعراف
5- البساطة , ونعني بها طريقه إلقاء الموعظة وأسلوبها الذي لابد أن يقدم بها وهو الأسلوب البسيط الطبيعي البعيد عن التكلف..
فتلك أفضل الطرق في توصيل الموعظة وهي التي تبلغ الثمار بسرعة فقد كانت
مواعظ النبي صلي الله عليه وسلم غير متكلفة , ووضح أن التكلف ممقوت في
النصيحة, فقد ورد النهي عنه فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله
عليه وسلم قال : " إن من أحبكم إلي وأقربكم مجلساً مِني يوم القيامة
أحسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مِني يوم القيامة الثرثارون ,
والمتشدقون ,والمتفيهقون " رواه الترمذي وقال حديث حسن , وقال تعالي( قل
ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين )
6- استغلال المواقف , فقد يستغل الواعظ بعض الأحداث أو المواقف أو بعض
العواقب التي تعود علي الكثير ممن يسيرون في الطرق الخاطئة بالضرر ويتم
حين ذاك الوعظ لأن تجارب الآخرين والصور والمشاهد الحقيقية أمام أولادنا
جديرة بأن تكون شاهدا ومعينا علي الوعظ الناجح وقد يكون لها تأثير فعال
7- استخدام أسلوب التشويق في الوعظ والنصح , لأن النفس البشرية تكره
الرتابة وتنفر من المعلومة فقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم من هديه
التمهيد لتعليمه أو لتربيته بما يشوق القلوب لسماعه ..
فهو أحياناً يطرح المسألة علي أصحابه متسائلاً (أتدرون ما الغيبة ) أو
(أتدرون من المفلس ) وهكذا , وكان يلغز لهم أحياناً كأن يقول :( إن من
الشجر شجرة لا يسقط ورقها و إنما مثلها مثل المسلم فأخبروني ما هي؟ )
البخاري .
فلاشك أن السؤال مدعاة للتفكير وأيضا ًيثير الاشتياق لمعرفه الجواب مما
يجعله أكثر رسوخاً في الذهن , وكان صلي الله عليه وسلم ربما يشير بقوله : (
أنا وكافل اليتيم كهاتين و أشار بإصبعيه السبابة والوسطي ) البخاري
وكان صل الله عليه وسلم يضرب الأمثلة أو يعرض القصة كما قال (مثل القائم
في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم أستهموا علي سفينة فكان بعضهم أسفلها
وكان بعضهم أعلاها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا علي من
فوقهم فقالوا لو أن خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا , فإن أخذوا
علي أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ,وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً
)البخاري
وكثيرا ما كان يحكي القصص الواقعية من الأمم السابقة كما في قصة الثلاثة
الذين آواهم المبيت إلي الغار فدعوا الله بصالح أعمالهم , وقصة الذي قتل
تسعه وتسعين نفساً وأمثالها كثير ..
إنه أسلوب النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم مع ذلك الجيل الفريد الذي تمنينا أن نقتدي به ..
لقد نجح لقمان الصالح ولاشك في موعظة ابنه , ونجح رسولنا الكريم صلي الله
عليه وسلم في تقديم الموعظة والنصح بأفضل الأساليب الشرعية الشيقة للسامع ,
الجذابة للصغار والكبار , والتي يحبذها الإنسان بطبعه بل يدعوا لها علماء
النفس باعتبارها تفسح الخيال وتغذيه , ليتنا نتأسى بتلك النماذج في موعظة
أبنائنا لوقايتهم من كل مظاهر الانحراف التي تبدوا لنا وأسبابها ونرقى
بهم لغرس ما يمكن من الفضائل .