الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث
رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى
الله عليه وسلم أما بعد:
فإن ليوم الجمعة خصائص عديدة، وفضائل كثيرة
تميز بها عن سائر الأيام، ولقد خلق الله الخلق وجعل لكل شيء خصوصية واختص
بعض الأمور على بعض وفضل بعض الأشياء على بعض.
فمن ذلك أن الله تعالى
خلق الكون وجعل الأرض سكناً للإنس والجن والحيوانات فخصها بذلك، ومن هذا أن
خلق الله الناس واختار منهم رسلاً وأنبياء هم خير البشر، بل وقيل خير
الخلق، ثم اختار من هؤلاء الأنبياء أولي العزم وجعلهم أفضل الرسل، ثم اختار
من هؤلاء نبياً عظيماً فضله على غيره من الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم
فهو أفضل الخلق عليه السلام.
ومن ذلك اختيار الأمكنة فكان أفضلها
وأخصها شرفاً مكة المكرمة، وخلق الأزمان شهورها وأسابيعها وأيامها فجعل خير
الشهور رمضان، واختص من بين الأيام يوم الجمعة فجمع الله فيه من الفضائل
والمكارم والخصائص ما لم يجتمع في غيره.
وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة
رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تطلع الشمس
ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا تفزع ليوم الجمعة،
إلا هذين الثقلين من الجن والإنس، على كل باب من أبواب المسجد ملكان،
يكتبان الأول فالأول، فكرجل قدم بدنة، وكرجل قدم بقرة، وكرجل قدم شاة،
وكرجل قدم طائراً، وكرجل قدم بيضة، فإذا قعد الإمام، طويت الصحف))1.
وقد ظهر فضل يوم الجمعة على غيره من الأيام في جوانب كثيرة..
وسننقل
من كلام ابن القيم ما يكفي ويشفي في هذا الموضوع، فقد ذكر رحمه الله
المفاضلة بين يوم الجمعة ويوم عرفة على الاختلاف الوارد بين العلماء، ثم
اختار رأياً مدعَّماً بالأدلة فقال:
"والصواب أن يوم الجمعة أفضل أيام
الأسبوع، ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر وليلة
الجمعة؛ ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام من وجوه
متعددة:
أحدها: اجتماع اليومين اللذين هما أفضل الأيام.
الثاني: أنه
اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة، وأكثر الأقوال: أنها آخر ساعة بعد
العصر، وأهل الموقف كلهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع.
الثالث: موافقته ليوم وقفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرابع:
أن فيه اجتماع الخلائق من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة، ويوافق ذلك
اجتماع أهل عرفة يوم عرفة بعرفة، فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم
وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه.
الخامس: أن يوم الجمعة يوم عيد ويوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة؛ ولذلك كره لمن بعرفة صومه...
السادس:
أنه موافق ليوم إكمال الله تعالى دينه لعباده المؤمنين وإتمام نعمته
عليهم؛ كما ثبت في صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: جاء يهودي إلى عمر بن
الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين آية تقرؤونها في كتابكم لو علينا معشر
اليهود نزلت ونعلم ذلك اليوم الذي نزلت فيه لاتخذناه عيداً، قال: أي آية؟
قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[المائدة: 3]، فقال عمر بن
الخطاب: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة يوم جمعة، ونحن واقفون معه بعرفة2.
السابع:
أنه موافق ليوم الجمع الأكبر والموقف الأعظم يوم القيامة، فإن القيامة
تقوم يوم الجمعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير يوم طلعت عليه
الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه
تقوم الساعة))3، و((فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً إلا
أعطاه إياه))4، ولهذا شرع الله سبحانه وتعالى لعباده يوماً يجتمعون فيه
فيذكرون المبدأ والمعاد والجنة والنار، وادخر الله تعالى لهذه الأمة يوم
الجمعة إذ كان فيه المبدأ وفيه المعاد؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم
يقرأ في فجره سورتي "السجدة" و{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}[الإنسان:
1] لاشتمالهما على ما كان وما يكون في هذا اليوم من خلق آدم وذكر المبدأ
والمعاد ودخول الجنة والنار، فكان يذكر الأمة في هذا اليوم بما كان فيه وما
يكون، فهكذا يتذكر الإنسان بأعظم مواقف الدنيا -وهو يوم عرفة- الموقف
الأعظم بين يدي الرب سبحانه في هذا اليوم بعينه ولا ينتصف حتى يستقر أهل
الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم.
الثامن: أن الطاعة الواقعة من
المسلمين يوم الجمعة وليلة الجمعة أكثر منها في سائر الأيام، حتى إن أكثر
أهل الفجور يحترمون يوم الجمعة وليلته ويرون أن من تجرأ فيه على معاصي الله
عز وجل عجل الله عقوبته ولم يمهله، وهذا أمر قد استقر عندهم وعلموه
بالتجارب؛ وذلك لعظم اليوم وشرفه عند الله واختيار الله سبحانه له من بين
سائر الأيام، ولا ريب أن للوقفة فيه مزية على غيره.
التاسع: أنه موافق
ليوم المزيد في الجنة، وهو اليوم الذي يجمع فيه أهل الجنة في واد أفيح
وينصب لهم منابر من لؤلؤ ومنابر من ذهب ومنابر من زبرجد وياقوت على كثبان
المسك، فينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى، ويتجلى لهم فيرونه عياناً ويكون
أسرعهم موافاة أعجلهم رواحاً إلى المسجد، وأقربهم منه أقربهم من الإمام،
فأهل الجنة مشتاقون إلى يوم المزيد فيها لما ينالون فيه من الكرامة وهو يوم
جمعة، فإذا وافق يوم عرفة كان له زيادة مزية واختصاص وفضل ليس لغير"5.
ومما جاء في فضل يوم الجمعة إضافة إلى ما ذكر ابن القيم:
فضل
الاغتسال والتنظف والتطيب والتبكير إلى الصلاة والقرب من الإمام، وكل ذلك
خير كبير وفضل عظيم أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين عظيم فضله
كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة رضي
الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اغتسل يوم
الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب - إن كان عنده -، ثم أتى الجمعة؛
فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه، حتى
يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)). قال ويقول
أبو هريرة: ((وزيادة ثلاثة أيام)). ويقول: ((إن الحسنة بعشر أمثالها))6.
ومن
أعظم الأحاديث التي وردت في فضل يوم الجمعة ما رواه أبو داود وغيره عن أبى
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير يوم
طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه
مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة7 يوم الجمعة من حين تصبح
حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد
مسلم وهو يصلى يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها)) قال كعب ذلك في كل سنة
يوم.
فقلت: بل في كل جمعة. قال فقرأ كعب التوراة فقال صدق النبي صلى
الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع
كعب، فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي.
قال أبو هريرة رضي
الله عنه فقلت له: فأخبرني بها. فقال عبد الله بن سلام هي آخر ساعة من يوم
الجمعة. فقلت: كيف هي آخر ساعة من يوم الجمعة؟ وقد قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى))، وتلك الساعة لا يصلى فيها.
فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جلس
مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلى))؟. قال فقلت بلى. قال هو ذاك8.
وبعد
كل هذه الفضائل التي سبق ذكرها فما على المؤمن الصادق مع ربه إلا أن يحافظ
على العمل بهذه الفضائل حتى يفوز برضوان الله عز وجل في الدنيا والآخرة،
وفضائل يوم الجمعة أكثر مما ذكر، ولكن قصدنا التنبيه والإشارة إلى أفضل
الفضائل.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. والله الموفق.
1 رواه الإمام أحمد (7687)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (697).
2 رواه البخاري (45)، ومسلم (3017).
3 رواه مسلم (854).
4 رواه البخاري (893)، مسلم (852).
5 زاد المعاد (1/54).
6 رواه أبو داود (343)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (331). وقد ورد هذا الحديث بروا