على الرَّغْمِ مما
بلغه الجاحظ من مكانةٍ وشهرةٍ اجتماعيَّةٍ وفكريَّةٍ وأدبيَّةٍ، فقد ظَلَّت
بعض معالم حياته وأصله وتاريخ مولده ومكانه مثار نقاشٍ وجدالٍ بَيْنَ
الباحثين الذين لم يبتُّوا فيها حَتَّى الآن. والحقُّ أنَّ ذلك إن كان
مشكلةً فهي غير ذات شأنٍ خطيرٍ يؤثر فيما قدَّمه أو فيما نحن الآن بصدده،
ولذلك ليس يعنينا هنا خوض غمار الكشف عن أصله، وضبط ساعة ولادته ومكانها،
وإنما سنمرُّ على ما لابدَّ من المرور به من ذلك، بقدر ما يخصُّ بحثنا
ويكون بمنـزلة تمهيد وتعريف بهذا المفكر الذي شغل معاصريه ولاحقيه، ووصل
الأمر بانشغالهم به وبأهميته إلى حدِّ أنَّهُ ذهب بعضٌ منهم إلى أنَّهُ إن
كان المتنبي ملك الشِّعر العربيِّ منازعاً أو غير منازعٍ فإنَّ ملك النَّثر
العربيِّ غير منازعٍ
هو الجاحظ.
اسـمه ونسـبه
هو
عمرو بن بحر الكناني البصري المكنَّى بأبي عثمان، كان ثَمَّةَ نتوءٌ واضحٌ
في حدقتيه فلقب بالحدقي ولكنَّ اللقب الذي التصق به أكثر وبه طارت شهرته في
الآفاق هو الجاحظ، وقد بذل من المساعي أعزَّها وأجلَّها كيما يمحو هذا
اللقب الذي كان ينفر منه عنه، ولكنَّه عبثاً كان يحاول ذلك الذي لم يؤت
له(2).
أما ولادته فلم تعرف بالضَّبط مَتَى كانت، فعلى الرَّغْمِ من
أنَّ ياقوت الحموي أورد أنَّ الجاحظ قال: «أنا أسنُّ من أبي نواس بسنة،
ولدت في أول خمسين ومئة، وولد في آخرها»(3) فإنَّ هناك من يصرُّ على تواريخ
أُخْرَى، فمنهم من ذهب مع القول السَّابق، ومنهم من قال إنَّما ولادته
كانت سنة 155 هـ، وجعلها بعضهم سنة 159 هـ، ولكنَّ جلَّ الباحثين قالوا:
إنَّ تاريخ ميلاده الصَّحيح هو عام 160هـ(4) أما وفاته لم نجد من يشكَّ في
أنَّها كانت بالبصرة سنة 255 هـ /896م.
وكما اختلفت أقوال
المؤرِّخين في تاريخ الولادة، فقد تباينت الآراء كذلك في تحديد أصله؛ فمن
ذاهبٍ إلى أنَّه عربيٌّ صرفٌ من بني كنانة، وكنانة عربيَّة الأصل، ترجع إلى
مُضَر، ولذلك نُعِتَ الجاحظ أيضاً بالكناني(5). وذهب آخرون إلى أنَّه من
الموالي، أعجميُّ الأصل أو متحدِّرٌ من الزِّنج(6). ومهما يكن من أمر مشكلة
أصل الجاحظ فإنَّها غيرُ ذاتِ شأنٍ يذكر أو يستحقُّ إثارة البحث فيها هنا
على الأقل لأن لهذا الأمر شأناً آخر، ولأنَّ ذلك من ناحيةٍ أخرى لن يغيِّر
أو يؤثِّر في شيءٍ، أو أنَّه لن يقود البتة إلى تغيير نظرتنا فيه، فولاؤه
للعروبة أشدُّ وضوحاً من الشَّمس في رابعة النَّهار، وانتماؤه إلى العروبة
واضحٌ في كتاباته هو ذاته وخاصَّةً منها ما يتعلَّق بردِّه على
الشُّعوبيَّة وتفنيد حججهم وادِّعاءاتهم(7).
ثقافته :
كان
للجاحظ منذ نعومة أظفاره ميلٌ واضحٌ ونزوعٌ عارمٌ إلى القراءة والمطالعة
حَتَّى ضَجِرَتْ أُمُّهُ وتبرَّمت به(. وظلَّ هذا الميل ملازماً لـه طيلة
عمره، حتَّى إنَّه فيما اشتُهِرَ عنه لم يكن يقنع أو يكتفي بقراءة الكتاب
والكتابين في اليوم الواحد، بل كان يكتري دكاكين الورَّاقين ويبيت فيها
للقراءة والنَّظر(9) ويورد ياقوت الحموي قولاً لأبي هفَّان ـ وهو من
معاصريه ومعاشريه ـ يدلُّ على مدى نَهَمِ الجاحظ بالكتب، يقول فيه: «لم أر
قطُّ ولا سمعت من أحبَّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنَّه لم يقع بيده
كتاب قَطُّ إلا استوفى قراءته كائناً ما كان»(10) ولا عَجَبَ إذ ذاك في أن
يُفْرِد الصَّفحات الطِّوال مرَّات عدَّة في كتبه، للحديث عن فوائد الكتب
وفضائلها ومحاسنها. والحقُّ أنَّه «كان أشبه بآلة مصوِّرةٍ، فليس هناك شيءٌ
يقرؤه إلاَّ ويرتسم في ذهنه، ويظلُّ في ذاكرته آماداً متطاوله»(11).
ولكن
الجاحظ لم يقصر مصادر فكره ومعارفه على الكتب، وخاصَّةً أنَّ ذلك عادةٌ
مذمومةٌ فيما أخبرنا هو ذاته وأخبرنا كثيرون غيره، إذ العلم الحقُّ لا يؤخذ
إلا عن معلم، فتتلمذ على أيدي كثيرٍ من المعلمين العلماء واغتنى فكره من
اتصاله بهم، وهو وإن لم يتَّفق مع بعضهم أو لم يرض عن فكرهم فإنَّهُ أقرَّ
بفضل الجميع ونقل عنهم وذكرهم مراراً بين طيات كتبه.
لقد تكوَّنَتْ
لدى الجاحظ ثقافةٌ هائلةٌ ومعارفُ طائلةٌ عن طريق «التحاقه بحلقات العلم
المسجديَّة التي كانت تجتمع لمناقشة عددٍ كبيرٍ وواسعٍ من الأسئلة،
وبمتابعة محاضرات أكثر الرِّجال علماً في تلك الأيَّام، في فقه اللغة وفقه
النَّحو والشِّعر، وسرعان ما حصَّل الأستاذيَّة الحقيقيَّة في اللغة
العربيَّة بوصفها ثقافةً تقليديَّة، وقد مَكنَّهُ ذكاؤُه الحادُّ من ولوج
حلقات المعتزلة حيث المناقشات الأكثر بريقاً، والمهتمَّة بالمشكلات الَّتي
تواجه المسلمين، وبالوعي الإسلامي في ذلك الوقت»(12).
ونظراً لسعة
علمه وكثرة معارفه وَصَفَهُ ابن يزداد بقوله: «هو نسيج وَحْدِهِ في جميع
العلوم؛ علم الكلام، والأخبار، والفتيا، والعربيَّة، وتأويل القرآن،
وأيَّام العرب، مع ما فيه من الفصاحة»(13).
وإن كان معاصرو الجاحظ
من العلماء، على موسوعيَّة ثقافتهم، أقرب إلى التَّخصص بالمعنى المعاصر،
فإن «تردُّد الجاحظ على حلقات التَّدريس المختلفة قد نجَّاه من عيب معاصريه
ذوي الاختصاص الضَّيِّقِ. فهو بدرسه العلوم النقليَّة قد ارتفع فوق مستوى
الكُتَّاب ذوي الثَّقافة الأجنبيَّة في أساسها القليلة النَّصيب من
العربيَّة وغير الإسلاميَّة البتَّة»(14)، ولذلك «لم يكتف بالتردُّد على
أوساطٍ معيَّنةٍ بغية التَّعمق في مادَّة اختارها بل لازمَ كلَّ المجامع،
وحضر جميع الدُّروس، واشترك في مناقشات العلماء المسجديين، وأطال الوقوف في
المربد ليستمع إلى كلام الأعراب، ونضيف إلى جانب هذا التكوين، الذي لم يعد
لـه طابع مدرسي محدود، المحادثات التي جرت بينه وبين معاصريه وأساتيذه في
مختلف المواضيع»(15).
أما أساتذة الجاحظ الذين تتلمذ عليهم وَرَوَى
عنهم في مختلف العلوم والمعارف فهم كثيرون جدًّا، وهم معظم علماء البصرة
إبَّان حياته، المظنون أنَّ الجاحظ لم ينقطع عن حضور حلقاتهم. ولكنَّ
مترجميه يكتفون بقائمةٍ صغيرةٍ منهم غالباً ما تقتصر على العلماء
الأَجِلَّة المشهورين. ومهما يكن من أمر، وبناءً على بعض المصادر، نستطيع
القول: إنَّ أهمَّ هؤلاء الأساتذة هم(16):
ـ في ميدان علوم
اللغة والأدب والشِّعر والرِّواية: أبو عبيدة معمر بن المثنَّى التميمي
والأصمعي وأبو زيد بن أوس الأنصاري ومحمد بن زياد بن الأعرابي وخلف الأحمر
وأبو عمرو الشَّيباني وأبو الحسن الأخفش وعلي بن محمد المدائني.
ـ
في علوم الفقه والحديث: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي ويزيد بن هارون
والسري بن عبدويه والحجَّاج بن محمد بن حماد بن سلمه بالإضافة إلى ثمامة بن
الأشرس الذي لازمه الجاحظ في بغداد.
ـ في الاعتزال وعلم الكلام:
أبو الهذيل العلاَّف والنَّظَّام ومويس بن عمران وضرار بن عمر والكندي وبشر
بن المعتمر الهلالي وثمامة بن أشرس النُّميري(17). وأحمد بن حنبل
الشيباني.
وثَمَّةَ علماء ومفكرون آخرون لا تقلُّ أهمِّيَّتهم عن هؤلاء، والجاحـظ ذاته لم يَغفل عن ذكر معظمهم.
وإذا
ما أضفنا إلى ذلك أصالة الجاحظ ونبوغه وألمعيَّته واتِّقاد قريحته، وجليل
إسهامه وإبداعاته وجدناه يستحقُّ بجدارةٍ كاملةٍ كلَّ ما قاله فيه مريدوه
ومحبُّوه والمعجبون به من تقريظاتٍ ساحرةٍ باهرةٍ، تكاد تبدو لمن لم يطَّلع
على آثار الجاحظ وحياته وفكره أنَّها محض مبالغات. ومما أورده ياقوت
الحموي، ويوجز فيه لنا ما سبق بلفظٍ أنيقٍ وتعبيرٍ رشيقٍ قولـه: «أبو عثمان
الجاحظ، خطيبُ المسلمين، وشيخُ المتكلِّمين، ومَدْرَهُ المتقدمين
والمتأخِّرين. إن تكلَّم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النَّظَّام
في الجدال، وإن جدَّ خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هَزَلَ زاد على مزبد،
حبيب القلوب، ومزاج الأرَّواح، وشيخ الأدب، ولسان العرب، كتبه رياضٌ
زاهرةٌ، ورسائله أفنانٌ مثمرةٌ، ما نازعه منازعٌ إلا رشاه أنفاً، ولا
تعرَّض لـه منقوصٌ إلا قدَّم لـه التَّواضع استبقاءً. الخلفاء تعرفه،
والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصَّة تسلِّم له،
والعامَّة تحبُّه. جَمَعَ بَيْنَ اللسان والقلم، وبَيْنَ الفطنة والعلم،
وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره، وفشت
حكمته، وظهرت خلَّته، ووطئ الرِّجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا
بالانتساب إليه»(18).