{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
لقد كانوا مع ما هم فيه من الضلال يتهمون النبي ومن معه بالضلال؛ ويزعمون لأنفسهم أنهم أهدى سبيلا! كما يصنع أمثالهم مع الدعاة إلى الله في كل زمان. ومن ثم يصور لهم واقع حالهم وحال المؤمنين في مشهد حي يجسم حقيقة الحال والذي يمشي مكبا على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلا لا على رجليه. وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه، ثم ينهض ليعثر من جديد! وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر. وأين هي من حال الذي يمشي مستقيما سويا في طريق لا عوج فيه ولا عثرات. إن الحال الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله، المحروم من هداه والحال الثانية هي حال السعيد المهتدي إلى الله المتمتع بهداه.
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}
يذكرنا ربنا بما وهبنا إياه من وسائل الهدى، وأدوات الإدراك مما لم ننتفع به، ولم نكن عليه من الشاكرين. وحقيقة أن الله هو الذي أنشأ الإنسان، حقيقة تلح على العقل البشري، وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده. فالإنسان قد وجد - وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يُعْلَم من الخلائق - وهو لم يوجد نفسه، فلا بد أن يكون هناك من هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده. ولا مفر من الاعتراف بخالق، والقرآن يذكر هذه الحقيقة هنا ليذكر بجانبها ما زود الله به الإنسان من وسائل المعرفة. {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}. وما قابل الإنسان به هذه النعمة نعمة الإنشاء ونعمة السمع والأبصار والأفئدة: {قليلا ما تشكرون}. والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة. والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة، معجزة أعجب وأغرب. ولم يعرف بعد عنها إلا القليل. وهي سر الله في هذا المخلوق الفريد. وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى، فإنه لم يشكر {قليلا ما تشكرون}. وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
تلك هي الشهادة الكبرى والتكريم العظيم، الذي تتجاوب معه أرجاء الوجود جميعا مع هذا الثناء الفريد على النبي الكريم. ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها: {وإنك لعلى خلق عظيم}. ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين! ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد تبرز من نواح شتى: تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله. ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة. وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر. أعظم بصدورها عن العلي الكبير. إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة. إنه محمد - وحده - هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية؛ حتى لتتمثل في شخصه حية، تمشي على الأرض في إهاب إنسان. إنه محمد – وحده الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام. والله أعلم حيث يجعل رسالته. وهو - جل شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم. ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله؛ وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية. والناظر في هذه العقيدة، كالناظر في سيرة رسولها، يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء. والرسول الكريم يقول: [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق] فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل. وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم. وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية، وصورة رفيعة، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}
يكشف الله لرسوله والمؤمنين من بعده عن حقيقة حال الكافرين. فهم مزعزعو العقيدة. مع أنهم يتظاهرون بالتصميم عليها. إنهم على استعداد للتخلي عن الكثير منها في مقابل أن يتخلى هو عن بعض ما يدعوهم إليه! على استعداد أن يدهنوا ويلينوا ويحافظوا فقط على ظاهر الأمر لكي يدهن هو لهم ويلين. فهم ليسوا أصحاب عقيدة يؤمنون بأنها الحق، وإنما هم أصحاب ظواهر يهمهم أن يستروها. فهي المساومة إذن، والالتقاء في منتصف الطريق. كما يفعلون في التجارة. وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير. بل ليس في العقيدة صغير وكبير. إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء. لا يطيع فيها صاحبها أحدا، ولا يتخلى عن شيء منها أبدا. وقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي ليدهن لهم ويلين؛ ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه. ولكن الرسول كان حاسما في موقفه من دينه، لا يدهن فيه ولا يلين. وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبا وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين! وهو فيه عند توجيه ربه: {فلا تطع المكذبين} ولم يساوم في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة. وهو محاصر بدعوته. وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون. ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين، تأليفا لقلوبهم، أو دفعا لأذاهم. ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد.
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ. هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ. أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}
تبرز قيمة العنصر الأخلاقي في هذه السورة أكثر من مرة فبعدما امتدح الله رسوله بالخلق العظيم ها هو يعود مرة أخرى لينهي الرسول عن إطاعة واحد من هؤلاء المكذبين بالذات، فيصفه بصفاته المزرية المنفرة، ويتوعده بالإذلال والمهانة. وقد قيل: إنه الوليد بن المغيرة. كما قيل: إن آيات سورة القلم نزلت في الأخنس بن شريق. وكلاهما كان ممن خاصموا رسول الله ولجوا في حربه والتأليب عليه أمدا طويلا. وهذه الحملة القرآنية العنيفة في هذه السورة. شاهد على شدة دوره سواء كان هو الوليد أو الأخنس. في حرب الرسول والدعوة، كما هي شاهد على سوء طويته، وفساد نفسه، وخلوها من الخير. والقرآن يصفه هنا بتسع صفات كلها ذميم. فهو حلاف. كثير الحلف. ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به. وهو مهين. لا يحترم نفسه، ولا يحترم الناس قوله. ولو كان ذا مال وذا بنين وذا جاه. وهو هماز. يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم. وهو مشاء بنميم. يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم، ويقطع صلاتهم، ويذهب بموداتهم. وهو مناع للخير. يمنع الخير عن نفسه وعن غيره. ولقد كان يمنع الإيمان وهو جماع الخير. وهو معتد. متجاوز للحق معتد على النبي وعلى المسلمين وعلى أهله وعشيرته الذين يصدهم عن الهدى ويمنعهم من الدين. وهو أثيم. يرتكب المعاصي حتى يحق عليه الوصف الثابت. {أثيم}. بدون تحديد لنوع الآثام التي يرتكبها. وهو بعد هذا كله {عتل}. وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات، لا تبلغها مجموعة ألفاظ وصفات. فقد يقال: إن العتل هو الغليظ الجافي. وإنه الأكول الشروب. وإنه الشره المنوع. وإنه الفظ في طبعه، اللئيم في نفسه، السيء في معاملته. ولكن تبقى كلمة {عتل} بذاتها أدل على كل هذا، وأبلغ تصويرا للشخصية الكريهة من جميع الوجوه. وهو زنيم. وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من الإسلام. والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم، أو أن نسبه فيهم ظنين. ومن معانيه، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ. وَلَا يَسْتَثْنُونَ. فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}
لما كان المال سببا في طغيان بعض أهل مكة ناسب ذلك الإشارة إلى المال والبنين، والبطر الذي يبطره المكذبون، بذكر هذه القصة التي تضرب مثلا ويبدو أنها كانت معروفة عندهم، شائعة بينهم، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين. ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة - جنة الدنيا لا جنة الآخرة - وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمرا. لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة. على أيام صاحبها الطيب الصالح. ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن، وأن يحرموا المساكين حظهم. لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين. وأقسموا على هذا، وعقدوا النية عليه، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه. فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي يبيتوه، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون. وفي الغد لنا لقاء...