أشار القرآن الكريم في أكثر من موضع إلى
جانب من جوانب الإعجاز في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وهو الإخبار
عن قصصٍ ومشاهد تفصيلية لحضارات سادت ثم اندثرت ، والحديث عن مواقف غيبيّة
وقعت في أمم سابقة لم يكن لها اتصالٌ مباشرٌ بأهل الجزيرة العربية ، وذلك
في قوله سبحانه : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } ( آل عمران : 44 ) ، وقوله سبحانه : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } ( يوسف : 102 ) .
ووجه الإعجاز في ذكر تلك القصص ، هو أن
البيئة العربية لم تكن على علمٍ بها ، سوى ما ورد ذكره من إشاراتٍ مجملة ،
أتت من قبيل ضرب الأمثال ، كقولهم : "أحلام عاد" ، وقولهم : " كانَتْ
عَلَيْهُمْ كَرَاغِيةِ البَكْرِ " والمقصود به ناقة صالح
عليه السلام ، وأما تفاصيل تلك القصص فلم يكونوا على علمٍ بتلك الأخبار
التفصيليّة ، وهذا يُثبت أنه عليه الصلاة والسلام علم بها من مصدر آخر ،
ويشير القرآن إلى ذلك بقوله تعالى : { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } ( هود : 49).
أما أهل الكتاب فلم تكن تلك الأخبار
الدقيقة معلومة سوى عند الأكابر من أحبارهم ، الذين أفنوا أعمارهم في
دراستها وتعلّمها ، في الوقت الذي لم يثبت فيه أن النبي – صلى الله عليه
وسلم – قد تلقّى عنهم تلك العلوم لا في مكّة ولا في غيرها ، ومع علمنا
بشدّة حرصهم على تكذيبه وإبطال دعوته فلم يدّع أحدٌ منهم قيامه بتعليمه
أياً من تلك العلوم .
وإذا أضفنا إلى ذلك أن النبي – صلى الله
عليه وسلم – كان أمّياً لا يُحسن القراءة ولا الكتابة ، فلم يكن من
المتصوّر أن يتلقّى مثل هذه الأخبار عن كتب أهل الكتاب ، وبالتالي لا سبيل
إلى معرفة تلك التفاصيل إلا عن طريق الوحي ، ولهذا المعنى أقرّ بعض
الأحبار بصدق النبي – صلى الله عليه وسلم – في نبوّته ، فحين أتى وفدٌ من
علماء اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وقالوا له : " يا أبا القاسم ، حدّثنا عن أمورٍ نسألك عنها ، لا يعلمهنّ إلا نبي " ...فكان فيما سألوه : " أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه قبل أن تُنزّل التوراة ؟ " ، فقال لهم : ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل
مرض مرضاً شديداً فطال سقمه ، فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه
ليُحرّمنّ أحب الشراب إليه ، وأحب الطعام إليه ، فكان أحب الطعام إليه
لحمان الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها ؟ ) ، فقالوا : " اللهم نعم " رواه أحمد .
ونصوص القرآن والسنّة مليئةٌ بقصص الأمم الماضية وما فيها من أحداث وعبر بأحسن أسلوب وألطف عبارة ، ابتداءً بقصّة آدم عليه السلام ومراحل تكوينه ونفخ الروح فيه ، ثم أمر الله تعالى للملائكة بالسجود له وعصيان إبليس لربّه ، ثم خروج آدم
عليه السلام من الجنّة واستقراره في الأرض حتى توفّاه الله تعالى ،
ومروراً بقصص أولي العزم من الرسل والابتلاءات التي لحقتهم في سبيل دعوتهم ،
والمعجزات التي أيّدهم الله باه ، وموقف أقوامهم منها ، وما تخلّل ذلك من
مواقف تربويّةٍ ومواعظ جليلة ، وعاقبة الذين آمنوا بهم في الدنيا والآخرة ،
والعقاب الإلهيّ الذي حلّ بالمعرضين عن قبول دعوتهم والإيمان بها .
كما وردت في نصوص الوحيين أخبارٌ كثيرة عن الصالحين ، وما جرى لهم من أحداث ، كقصّة أصحاب الكهف ، وخبر موسى مع الخضر ، ويوسف وإخوته ، وتمكين ذي القرنين ، ووصايا لقمان ، وتفاصيل ما حدث للعبد الصالح الذي أماته الله مائة عام ، ثم بعثه ليوقفه على حقيقة البعث والنشور .
ومن ذلك أيضاً : قصّة البغيّ التي سقت
كلباً فغفر الله لها ، وقصّة التاجر الذي كان يتسامح مع الدائنين ، فنال
بذلك المغفرة من الله ، وقصّة قاتل التسعة والتسعين نفساً ، وقصّة الغلام
المؤمن والساحر ، وقصّة أصحاب الغار والصخرة التي سدّت عليهم بابها .
فهذه وغيرها من الأخبار التي وقعت في الأمم
السابقة ، وأخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم – تضيف بُعداً جديداً
للدلائل الكثيرة على صدق نبوّته – صلى الله عليه وسلم - ، وأحقّية رسالته