تذكر أنك بشر !
كان الفراعنة يضعون صورة تابوت على المائدة ، كي يلجموا أنفسهم على الانغماس في الشهوات ، ويُفكروا في الموت. ذلك أن فائض النِعم يعمي البصائر ، ويُعطي إحساسا للإنسان بالعظمة والخلود.
لقد ذهبت النِعم عبر التاريخ بإمبراطوريات لم تكن تغرب عنها الشمس . فإدمان الرفاهيّة والملذّات أسقط قلاع روما ، ولم يُبقي منها سوى الأعمدة لمن يعتبر.أمّا قادتها ، فـ بفضل فتوحاتهم العابرة للقارات ، والانتصارات الساحقة لجحافل جيوشهم ، أخذوا أنفسهم مأخذ الآلهة . مما جعل مجلس الشيوخ ينصِب مُنادياً على مدخل روما لدى عودة أي قائد منتصر إلى المدينة ، ومعه بوق يردِّد فيه " تذكّر أنك بشر . . تذكّر أنك بشر " .
لو أنّ طغاة هذه الأمة ، ممن استبدّوا وأبادوا ، وأفسدوا ونهبوا و تألّهوا وتفرعنوا ، سمعوا هذا النداء ، لربما عادوا إلى صوابهم ، وتذكّروا أنهم مجرّد بشر ، وُجدوا لمصادفة تاريخيّة حيث هم. فتواضعوا قليلا ، ووفّروا على أنفسهم ذنوبا بين يديّ الله ، ومذلّة أمام التاريخ .
إن أناساً سطوا على ميزانيات دول ، وحوَّلوها دون حرجٍ إلى ثروات شخصيّة ، موزَّعة على بنوك العالم ، يعتقدون حتما أنهم خالدون . وأنّهم سيُقيمون في كل القصور التي امتلكوها ، ويُنفقون كل الأموال التي نهبوها ، ويأخذون معهم حيثما سيذهبون ، ما خزّنوا ممّا سرقوه من فم جياع ، أتمِنوا أمام الله على قوتهم .
يقول الله تعالى " وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار ".
ولا أظن مثلهم كان يملك من الوقت لعدّ نِعم الله ، ولا من الخوف من ملاقاته ليُثابر على شكره ، وقد قال الإمام علي (رضي الله عنه وأرضاه) " بالشكر تدوم النِعم ".
جميعنا سمعنا من يقول " دوام الحال من المحال " لكن في أعماقنا لا نصدّق هذه الحكمة أو نتعظ بها. فالنفس البشريّة في اعتيادها على النِعم لا تُصدِّق زوالها. لا غنياً يتوقّع إفلاسه ، لا شاباً يرى نفسه ذات يومٍ شيخاً ، لاحاكماً يضع في حسبانه زوال الكرسي وجاه السلطة ، لا المعافى المتمتّع بنعمة الصحة يضع المرض في حسبانه ، ولا العاشق يتوقّع فقدان الحبيب ، ولا الحيّ يرى بأمّ عينيه روحه ساعة سكرات الموت .
إن مأساة الإنسان تكمن في عدم تصديقه لزوال النِعم ، لذلك قليلون يستعدّون لخسارتها ، بالمثابرة بتذكير النفس بهشاشة مكاسبها . كلّ ما يصنع زهو الإنسان ومباهجه زائل ، لذا وحده المؤمن أو من منَ عليه الله بالحكمة ، يتعامل مع الشباب والحبّ والصحة والجاه والثراء والحياة ، كهدايا يُمكن لله متى شاء استردادها ، لأنها نِعم يختبرنا بها الله كي نكون أهلاً للنعمة الأبديّة : الجـــــّنة .
تذكر أنك بشر ..!